الآيات 18-36

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴿18﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴿19﴾ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴿20﴾ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴿21﴾ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿22﴾ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ﴿23﴾ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴿24﴾ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ﴿25﴾ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴿26﴾ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ﴿27﴾ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴿28﴾ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴿29﴾ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴿30﴾ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ ﴿31﴾ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ ﴿32﴾ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ﴿33﴾ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴿34﴾ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ﴿35﴾ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴿36﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر ويعقوب تعرف بضم التاء وفتح الراء نضرة بالرفع والباقون ﴿تعرف﴾ بفتح التاء وكسر الراء ﴿نضرة﴾ بالنصب وقرأ الكسائي وحده خاتمه وهي قراءة علي (عليه السلام) وعلقمة والباقون ﴿ختامه﴾ وقرأ أبو جعفر وحفص ﴿فكهين﴾ بغير ألف والباقون فاكهين وقرأ حمزة والكسائي هثوب الكفار بإدغام اللام في الثاء وقد روي نحوه عن أبي عمرو والباقون بالإظهار.

الحجة:

﴿تعرف في وجوههم﴾ على الخطاب والمعنى في القراءتين سواء وقال أبو عبيدة ختامه أي عاقبته قال ابن مقبل:

مما يفتق في الحانوت باطنها

بالفلفل الجون والرمان مختوم

قال أبو علي ﴿ختامه مسك﴾ والمراد به لذاذة المقطع وذكاء الرائحة وأرجها مع طيب الطعم وهذا كقوله كان مزاجها كافورا وكان مزاجها زنجبيلا أي يحذي اللسان وأما قول الكسائي خاتمه فإن معناه آخره كما كان خاتم النبيين معناه آخرهم فالختام المصدر والخاتم اسم الفاعل كالطابع والتابل والعرب تقول خاتم بالفتح وخاتم وخاتام وخيتام قال سيبويه أدغم أبو عمرو هثوب الكفار وإدغامها فيها حسن وإن كان دون إدغام اللام في الراء في الحسن لتقاربهما وجاز إدغامها فيها لأنه قد أدغم في الشين فيما قد أنشده من قوله:

هشيء بكفيك لائق يريد هل شيء

اللغة:

عليون علو على علو مضاعف ولهذا جمع بالواو والنون تفخيما لشأنه وتشبيها بما يعقل في عظم الشأن وهي مراتب عالية محفوفة بالجلالة قال الشاعر:

فأصبحت المذاهب قد أذاعت

به الأعصار بعد الوابلينا

يريد قطرا بعد قطر غير محدود العدد وكذلك تفخيم شأن العدد الذي ليس على الواحد نحو ثلاثون وأربعون إلى التسعين وجرت العشرون عليه وقال الزجاج عليون اسم لأعلى الأمكنة وإعرابه كأعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع كما تقول هذا قنسرون ورأيت قنسرين والأرائك الأسرة في الحجال والرحيق الشراب الذي لا غش فيه قال حسان:

يسقون من ورد البريص عليهم

بردي تصفق بالرحيق السلسل

قال الخليل هي أفضل الخمر وأجودها والتنافس تمني كل واحد من النفسين مثل الشيء النفيس الذي للنفس الأخرى أن يكون له تنافسوا في الشيء تنافسا ونافسه فيه منافسة ونفس عليه بالشيء ينفس نفاسة إذا ضن به لجلالة قدره عنده وذلك الشيء الذي ينفس به نفيس والمزج خلط مائع بمائع على خلاف صفته كمزج الشراب بالماء والتسنيم عين ماء يجري من علو إلى أسفل يتسنم عليهم من الغرف واشتقاقه من السنام وسنمت العين تسنيما إذا أجريتها عليهم من فوقهم والتغامز إشارة بعضهم إلى بعض بالأعين استهزاء وطلبا للعيب يقال غمز بجفنه إذا أشار والفاكهون اللاهون والفكهون المرحون الأشرون والفكاهة المزاح وأصل الثواب من الرجوع كأنه يرجع على العامل بعمله وثاب عليه عقله إذا رجع.

الإعراب:

﴿عينا يشرب بها المقربون﴾ يجوز أن تكون منصوبة مفعولة لتسنيم أي مزاجه من ماء متسنم عينا كقوله تعالى ﴿أو إطعام يتيما﴾ ويجوز أن تكون منصوبة على تقدير ويسقون من عين ويجوز أن تكون منصوبة على الحال ويكون تسنيم معرفة وعينا نكرة.

المعنى:

لما تقدم ذكر حال الفجار عقبه سبحانه بذكر حال الأبرار فقال ﴿كلا﴾ أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه فعلى هذا يتصل بما قبله وقيل معناه حقا ويتصل بما بعده ﴿إن كتاب الأبرار﴾ أي المطيعين لله ﴿لفي عليين﴾ أي مراتب عالية محفوفة بالجلالة وقيل في السماء السابعة وفيها أرواح المؤمنين عن قتادة ومجاهد والضحاك وكعب وقيل في سدرة المنتهى وهي التي ينتهي إليها كل شيء من أمر الله تعالى عن الضحاك في رواية أخرى وقيل العليون الجنة عن ابن عباس قال الفراء في ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له وقيل هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها عن ابن عباس في رواية أخرى وعن البراء بن عازب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في عليين في السماء السابعة تحت العرش ﴿وما أدراك ما عليون﴾ وهذا تعظيم لشأن هذه المنزلة وتفخيم لأمرها وتنبيه على أن تفصيل تفضيله لا يمكن العلم به إلا بالمشاهدة ثم قال ﴿كتاب مرقوم﴾ أي هو كتاب مكتوب فيه جميع طاعاتهم وما تقر به أعينهم ويوجب سرورهم بضد الكتاب الذي للفجار لأن فيه ما يسوؤهم وينوؤهم ويسخن عيونهم قال مقاتل مرقوم مكتوب لهم بالخيرات في ساق العرش ويدل عليه قوله ﴿يشهده المقربون﴾ يعني الملائكة الذين هم في عليين يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين والمقربون هم الذين قربوا إلى كرامة الله في أجل المراتب وقال عبد الله بن عمر أن أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كذا فإذا أشرف رجل منهم أشرقت الجنة وقالوا قد اطلع علينا رجل من أهل عليين ﴿إن الأبرار لفي نعيم﴾ أي يحصلون في ملاذ وأنواع من النعمة في الجنة ﴿على الأرائك﴾ قال الحسن ما كنا نعرف ما الأرائك حتى قدم إلينا رجل من أهل اليمن فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير ﴿ينظرون﴾ إلى ما أعطوا من النعيم والكرامة وقيل ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون عن مقاتل ﴿تعرف في وجوههم نضرة النعيم﴾ أي إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة بما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض والبهجة قال عطاء وذلك أن الله تعالى قد زاد في جمالهم وألوانهم ما لا يصفه واصف ﴿يسقون من رحيق﴾ أي خمر صافية خالصة من كل غش ﴿مختوم﴾ وهو الذي له ختام أي عاقبة وقيل مختوم في الآنية بالمسك وهو غير الخمر التي تجري في الأنهار وقيل مختوم أي ممنوع من أن تمسه يد حتى يفك ختمه للأبرار ثم فسر المختوم بقوله ﴿ختامه مسك﴾ أي آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه عن آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك عن ابن عباس والحسن وقتادة.

وقيل ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين الذي يختم به الشراب في الدنيا عن مجاهد وابن زيد قال مجاهد طينه مسك وعن أبي الدرداء قال هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجه لم يبق ذو روح إلا ونال طيبها ثم رغب فيها فقال ﴿وفي ذلك فليتنافس المتنافسون﴾ أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى ومثله قوله سبحانه لمثل هذا فليعمل العاملون وقيل فليتنازع المتنازعون عن مقاتل وقيل ليتشاح المتشاحون عن زيد بن أسلم وفي الحديث من صام لله في يوم صائف سقاه الله على الظمأ من الرحيق المختوم وفي وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) ومن ترك الخمر لله سقاه الله من الرحيق المختوم ﴿ومزاجه من تسنيم﴾ أي ومزاج ذلك الشراب الذي وصفناه وهو ما يمزج به من تسنيم وهو عين في الجنة وهو أشرف شراب في الجنة قال مسروق يشربها المقربون صرفا ويمزج بها كأس أصحاب اليمين فيطيب وروى ميمون بن مهران أن ابن عباس سئل عن تسنيم فقال هذا مما يقول الله عز وجل فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ونحو هذا قول الحسن خفايا أخفاها الله لأهل الجنة وقيل هو شراب ينصب عليهم من علو انصبابا عن مقاتل وقيل هو نهر يجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنة بحسب الحاجة عن قتادة ثم فسره سبحانه فقال ﴿عينا يشرب بها المقربون﴾ أي هي خالصة للمقربين يشربونها صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة عن ابن مسعود وابن عباس ﴿إن الذين أجرموا﴾ يعني كفار قريش ومترفيهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم ﴿كانوا من الذين آمنوا﴾ يعني أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل عمار وخباب وبلال وغيرهم ﴿يضحكون﴾ على وجه السخرية بهم والاستهزاء في دار الدنيا ويحتمل أن يكون ضحكوا من جدهم في عبادتهم وكثرة صلاتهم وصيامهم لإنكارهم الجزاء والبعث ويجوز أن يكون كان ضحكهم إنكارا وتعجبا من قولهم بالإعادة وإحياء العظام الرميمة ويحتمل أن يكون ذلك لغلوهم في كفرهم وجهلهم ولإيهام العوام أنهم على حق وإن المسلمين على باطل فكانوا يضحكون ﴿وإذا مروا بهم﴾ يعني وإذا مر المؤمنون بهؤلاء المشركين ﴿يتغامزون﴾ بأن يشير بعضهم إلى بعض بالأعين والحواجب استهزاء بهم أي يقول هؤلاء إنهم على حق وإن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أنزل عليه الوحي وأنه رسول وإنا نبعث ونحو ذلك وقيل نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) وذلك أنه كان في نفر من المسلمين جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه فنزلت الآية قبل أن يصل علي (عليه السلام) وأصحابه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مقاتل والكلبي وذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال ﴿إن الذين أجرموا﴾ منافقوا قريش و﴿الذين آمنوا﴾ علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأصحابه ﴿وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين﴾ يعني وإذا رجع هؤلاء الكفار إلى أهلهم رجعوا معجبين بما هم فيه يتفكهون بذكرهم ﴿وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون﴾ عن طريق الحق والصواب تركوا التنعم رجاء ثواب لا حقيقة لهم خدعهم به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال سبحانه ﴿وما أرسلوا عليهم حافظين﴾ أي ولم يرسل هؤلاء الكفار حافظين على المؤمنين ما هم عليه وما كلفوا حفظ أعمالهم فكيف يطغون عليهم ولو اشتغلوا بما كلفوه كان ذلك أولى بهم وقيل معناه وما أرسلوا عليهم شاهدين لأن شهادة الكفار لا تقبل على المؤمنين أي ليسوا شهداء عليهم بل المؤمنون شهداء على الكفار يشهدون عليهم يوم القيامة عن أبي مسلم ﴿فاليوم﴾ يعني يوم القيامة الذي يجازي الله كل أحد على عمله ﴿الذين آمنوا من الكفار يضحكون﴾ كما ضحك الكفار منهم في الدنيا وذلك أنه يفتح للكفار باب إلى الجنة ويقال لهم أخرجوا إليها فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم المؤمنون عن أبي صالح وقيل يضحكون من الكفار إذا رأوهم في العذاب وأنفسهم في النعيم وقيل أن الوجه في ضحك أهل الجنة من أهل النار أنهم لما كانوا أعداء الله وأعداء لهم جعل الله سبحانه لهم سرورا في تعذيبهم ولو كان العفو قد وقع عليهم لم يجز أن يجعل السرور في ذلك لأنه مضمن بالعداوة وقد زالت بالعفو ﴿على الأرائك ينظرون﴾ يعني المؤمنين ينظرون إلى عذاب أعدائهم الكفار على سرر في الحجال ثم قال سبحانه ﴿هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون﴾ أي هل جوزي الكفار إذا فعل بهم هذا الذي ذكره على ما كانوا يفعلونه من السخرية بالمؤمنين في الدنيا وهو استفهام يراد به التقرير وثوب بمعنى أثيب وقيل معناه يتصل بما قبله ويكون التقدير إن الذين آمنوا ينظرون هل جوزي الكفار بأعمالهم ويكون الجملة متعلقة بينظرون وعلى القول الأول يكون استئناف كلام لا موضع له من الإعراب وإنما قال ﴿هل ثوب الكفار﴾ فاستعمل لفظ الثواب في العقوبة لأن الثواب في أصل اللغة الجزاء الذي يرجع إلى العامل بعمله وإن كان في العرف اختص الجزاء بالنعيم على الأعمال الصالحة فاستعمل هنا على أصله وقيل لأنه جاء في مقابلة ما فعل بالمؤمنين أي هل ثوب الكفار كما ثوب المؤمنون وهذا القول يكون من قبل الله تعالى أو تقوله الملائكة للمؤمنين تنبيها لهم على أن الكفار جوزوا على كفرهم واستهزائهم بالمؤمنين ما استحقوه من أليم العذاب ليزدادوا بذلك سرورا إلى سرورهم ويحتمل أن يكون ذلك يقوله المؤمنون بعضهم لبعض سرورا بما ينزل بالكفار وكل هذه الوجوه إنما تتجه على القول الأول إذا كانت الجملة كلاما مستأنفا لا تعلق له بما قبله.