الآيات 1-5

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿1﴾ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿2﴾ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿3﴾ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴿4﴾ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ﴿5﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير أبي لهب ساكنة الهاء والباقون بفتحها واتفقوا في ﴿ذات لهب﴾ أنها مفتوحة الهاء لو فاق الفواصل وقرأ عاصم ﴿حمالة الحطب﴾ بالنصب والباقون بالرفع وروي عن البرجمي سيصلى بضم الياء وهي قراءة أشهب العقيلي وأبي رجاء وفي الشواذ قراءة ابن مسعود ومريئته حمالة للحطب في جيدها حبل من مسد.

الحجة:

قال أبو علي يشبه أن يكون لهب ولهب لغتين كالشمع والشمع والنهر والنهر واتفاقهم في الثانية على الفتح يدل على أنه أوجه من الإسكان وكذلك قوله ولا يغني من اللهب وأما حمالة الحطب فمن رفع جعله وصفا لقوله ﴿وامرأته﴾ ويدل على أن الفعل قد وقع كقولك مررت برجل ضارب عمرا أمس فهذا لا يكون إلا معرفة ولا يقدر فيه إلا الانفصال كما يقدر في هذا النحو إذا لم يكن الفعل واقعا وأما ارتفاع امرأته فيحتمل وجهين (أحدهما) العطف على فاعل سيصلى التقدير سيصلى نارا هو وامرأته إلا أن الأحسن أن لا يؤكد لما جرى من الفصل بينهما ويكون ﴿حمالة الحطب﴾ على هذا وصفا لها ويجوز في قوله ﴿في جيدها﴾ أن يكون في موضع حال وفيها ذكر منها ويتعلق بمحذوف ويجوز فيه وجه آخر وهو أن يرتفع امرأته بالابتداء وحمالة وصف لها وفي جيدها خبر المبتدأ وأما النصب في ﴿حمالة الحطب﴾ فعلى الذم لها كأنها كانت اشتهرت بذلك فجرت الصفة عليها للذم لا للتخصيص والتخليص من موصوف غيرها وقوله ﴿حبل﴾ معناه غليظ رجل حبل الوجه وحبل الرأس.

اللغة:

التب والتباب الخسران المؤدي إلى الهلاك والمسد الحبل من الليف وجمعه أمساد قال:

ومسد أمر من أيانق

ليس بأنياب ولا حقائق

النزول:

سعيد بن جبير عن ابن عباس قال صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم الصفا فقال يا صباحاه فأقبلت إليه قريش فقالوا له ما لك فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني قالوا بلى قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك لهذا دعوتنا جميعا فأنزل الله هذه السورة أورده البخاري في الصحيح.

المعنى:

﴿تبت يدا أبي لهب وتب﴾ أي خسرت يداه وخسر هو عن مقاتل وإنما قال خسرت يداه لأن أكثر العمل يكون باليد والمراد خسر عمله وخسرت نفسه بالوقوع في النار وقيل أن اليد هنا صلة كقولهم يد الدهر ويد السنة قال:

وأيدي الرزايا بالذخائر مولع وقيل معناه صفرت يداه من كل خير قال الفراء: الأول دعاء والثاني خبر فكأنه قال أهلكه الله وقد هلك وفي حرف عبد الله وأبي وقد تب وقيل أن الأول أيضا خبر ومعناه أنه لم تكتسب يداه خيرا قط وخسر مع ذلك هو نفسه أي تب على كل حال وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان شديد المعاداة والمناصبة له قال طارق المحاربي: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول يا أيها الناس أنه كذاب فلا تصدقوه فقلت من هذا فقالوا هو محمد يزعم أنه نبي وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب وإنما ذكر سبحانه كنيته دون اسمه لأنها كانت أغلب عليه وقيل لأن اسمه عبد العزى فكره الله سبحانه أن ينسبه إلى العزى وأنه ليس بعبد لها وإنما هو عبد الله وقيل بل اسمه كنيته وإنما سمي بذلك لحسنه وإشراق وجهه وكانت وجنتاه كأنهما تلتهبان عن مقاتل ﴿ما أغنى عنه ماله وما كسب﴾ أي ما نفعه ولا دفع عنه عذاب الله ماله وما كسبه ويكون ما في قوله ﴿وما كسب﴾ موصولة والضمير العائد من الصلة محذوف وقيل معناه أي شيء أغنى عنه ماله وما كسب يعني ولده لأن ولد الرجل من كسبه وذلك أنه قال لما أنذره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنار إن كان ما تقول حقا فإني أفتدي بمالي وولدي ثم أنذره سبحانه بالنار فقال ﴿سيصلى نارا ذات لهب﴾ أي سيدخل نارا ذات قوة واشتعال تلتهب عليه وهي نار جهنم وفي هذا دلالة على صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحة نبوته لأنه أخبر أن أبا لهب يموت على كفره وكان كما قال ﴿وامرأته﴾ وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان ﴿حمالة الحطب﴾ كانت تحمل الشوك والعضاة فتطرحه في طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا خرج إلى الصلاة ليعقره عن ابن عباس وفي رواية الضحاك قال الربيع بن أنس كانت تبث وتنشر الشوك على طريق الرسول فيطأه كما يطأ أحدكم الحرير وقيل أنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس فتلقي بينهم العداوة وتوقد نارها بالتهييج كما توقد النار الحطب فسمى النميمة حطبا عن ابن عباس في رواية أخرى وقتادة ومجاهد وعكرمة والسدي قالت العرب فلان يحطب على فلان إذا كان يغري به قال ولم يمش بين الحي بالحطب الرطب أي لم يمش بالنميمة وقيل حمالة الحطب معناه حمالة الخطايا عن سعيد بن جبير وأبي مسلم ونظيره قوله وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ﴿في جيدها حبل من مسد﴾ أي في عنقها حبل من ليف وإنما وصفها بهذه الصفة تخسيسا لها وتحقيرا وقيل حبل يكون له خشونة الليف وحرارة النار وثقل الحديد يجعل في عنقها زيادة في عذابها وقيل في عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا تدخل من فيها وتخرج من دبرها وتدار على عنقها في النار عن ابن عباس وعروة بن الزبير وسميت السلسلة مسدا بمعنى أنها ممسودة أي مفتولة وقيل أنها كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت لأنفقنها في عداوة محمد فيكون عذابا يوم القيامة في عنقها عن سعيد بن المسيب ويروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت لما نزلت هذه السورة أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:

مذمما أبينا

ودينه قلينا

وأمره عصينا والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس في المسجد ومعه أبو بكر فلما رآها أبو بكر قال يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنها لن تراني وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت يا أبا بكر أخبرت أن صاحبك هجاني فقال لا ورب البيت ما هجاك فولت وهي تقول قريش تعلم إني بنت سيدها وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال صرف الله سبحانه عني أنهم يذمون مذمما وأنا محمد ومتى قيل كيف يجوز أن لا ترى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد رأت غيره فالجواب يجوز أن يكون الله قد عكس شعاع عينيها أو صلب الهواء فلم ينفذ فيه الشعاع أو فرق الشعاع فلم يتصل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ما زال ملك يسترني عنها وإذا قيل هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة وهل كان يقدر على الإيمان ولو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنه سيصلى نارا ذات لهب فالجواب أن الإيمان يلزمه لأن تكليف الإيمان ثابت عليه وإنما توعده الله بشرط أن لا يؤمن أ لا ترى إلى قوله سبحانه في قصة فرعون ﴿الآن وقد عصيت قبل﴾ وفي هذا دلالة على أنه لو تاب قبل وقت اليأس لكان يقبل منه ولهذا خص رد التوبة عليه بذلك الوقت وأيضا فلو قدرنا أن أبا لهب سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لو آمنت هل أدخل النار لكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول له لا وذلك لعدم الشرط.