الآيات 29-40

انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴿29﴾ انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ﴿30﴾ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ﴿31﴾ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ﴿32﴾ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ﴿33﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿34﴾ هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ ﴿35﴾ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴿36﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿37﴾ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ﴿38﴾ فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴿39﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴿40﴾

القراءة:

قرأ رويس عن يعقوب انطلقوا الثانية بفتح اللام والباقون من القراء على كسر اللام فيهما وقرأ أهل الكوفة غير أبي بكر جمالة بغير ألف ويعقوب ﴿جمالات صفر﴾ بالألف وضم الجيم وروي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما وقرأ الباقون جمالات بالألف وكسر الجيم وفي الشواذ قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير بخلاف كالقصر بفتح القاف والصاد.

الحجة:

من قرأ انطلقوا الثانية بالفتح فإنه حمل الأول على الأمر والثاني على الخبر وجمالات جمع جمال وجمع بالألف والتاء على تصحيح البناء كما جمع على تكسيره في قولهم جمائل قال ذو الرمة:

وقربن بالزرق الجمائل بعد ما

تقوب عن غربان أوراكها الخطر

وأما جمالة فإن التاء لحقت جمالا لتأنيث الجمع كما لحقت في فحل وفحالة وذكر وذكارة ومن قرأ جمالات بالضم فهي جمع جمالة وهو القلس من قلوس سفن البحر ويقال من قلوس الجسر قال الزجاج ويجوز أن يكون جمع جمل جمال وجمالات كما قيل رخال جمع رخل ومن قرأ كالقصر بفتح الصاد فهو جمع قصرة أي كأنها أعناق الإبل وقيل القصر أصول الشجر واحدتها قصرة وكذا قرأها مجاهد قال وهي خرم الشجر قال الحسن قصرة وقصر مثل جمرة وجمر وهي أصول الشجر قال والعامة يجعلونها على القصور قال ابن جني وحدثنا أبو على أن القصر هنا بمعنى القصور وقال هي بيوت من أدم كان يضربون بها إذا نزلوا على الماء.

المعنى:

ثم بين سبحانه ما يقال لهم جزاء على تكذيبهم فقال ﴿انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون﴾ أي تقول لهم الخزنة اذهبوا وسيروا إلى النار التي كنتم تجحدونها وتكذبون بها ولا تعترفون بصحتها في الدنيا والانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث ثم ذكر الموضع الذي أمرهم بالانطلاق إليه فقال ﴿انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب﴾ أي نار لها ثلاث شعب سماها ظلا لسواد نار جهنم وقيل هو دخان جهنم له ثلاث شعب تحيط بالكافر شعبة تكون فوقه وشعبة عن يمينه وشعبة عن شماله وسمي الدخان ظلا كما قال أحاط بهم سرادقها أي من الدخان الآخر بالأنفاث عن مجاهد وقتادة وقيل يخرج من النار لسان فيحيط بالكافر كالسرادق فيتشعب ثلاث شعب فيكون فيها حتى يفرغ من الحساب ثم وصف سبحانه ذلك الظل فقال ﴿لا ظليل﴾ أي غير مانع من الأذى بستره عنه ومثله الكنين فالظليل من الظلة وهي السترة والكنين من الكن فظل هذا الدخان لا يغني الكفار شيئا من حر النار وهو قوله ﴿ولا يغني من اللهب﴾ واللهب ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر يعني أنهم إذا استظلوا بذلك الظل لم يدفع عنهم حر اللهب ثم وصف سبحانه النار فقال ﴿إنها ترمي بشرر﴾ وهو ما يتطاير من النار في الجهات ﴿كالقصر﴾ أي مثله في عظمه وتخويفه تتطاير على الكافرين من كل جهة نعوذ بالله منه وهو واحد القصور من البنيان عن ابن عباس ومجاهد والعرب تشبه الإبل بالقصور قال الأخطل:

كأنه برج رومي يشيده

لز بجص وآجر وأحجار

قال عنترة:

فوقفت فيها ناقتي وكأنها

فدن لأقضي حاجة المتلوم

والفدن القصر وقيل كالقصر أي كأصول الشجر العظام عن قتادة والضحاك وسعيد بن جبير ثم شبهه في لونه بالجمالات الصفر فقال ﴿كأنه جمالت صفر﴾ أي كأنها أينق سود لما يعتري سوادها من الصفرة عن الحسن وقتادة قال الفراء لا ترى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة ولذلك سمت العرب سود الإبل صفراء وقيل هو من الصفرة لأن النار تكون صفراء عن الجبائي ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ بنار هذه صفتها ﴿هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون﴾ قيل في معناه قولان (أحدهما) أنهم لا ينطقون بنطق ينتفعون به فكأنهم لم ينطقوا (و الثاني) أن في القيامة مواقف ففي بعضها يختصمون ويتكلمون وفي بعضها يختم على أفواههم ولا يتكلمون وعن قتادة قال جاء رجل إلى عكرمة قال أ رأيت قول الله تعالى ﴿هذا يوم لا ينطقون﴾ وقوله ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون فقال إنها مواقف فأما موقف منها فتكلموا واختصموا ثم ختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فحينئذ لا ينطقون وأجاز النحويون ﴿هذا يوم لا ينطقون﴾ بالنصب على أنه يشير إلى الجزاء ولا يشير إلى اليوم وقوله ﴿فيعتذرون﴾ رفع عطفا على قوله ﴿ولا يؤذن لهم﴾ تقديره فلا يعتذرون ولو قيل فلا يعتذروا فنصب لكان المعنى أن الإذن سبب لعذرهم ولكن المعنى لا يؤذن لهم في الاعتذار فهم لا يعتذرون ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ بهذا الخبر ﴿هذا يوم الفصل﴾ بين أهل الجنة والنار وقيل هذا يوم الحكم والقضاء بين الخلق والانتصاف للمظلوم من الظالم وفصل القضاء يكون في الآخرة على ظاهر الأمر وباطنه بخلاف الدنيا لأن القاضي يحكم على ظاهر الأمر في الدنيا ولا يعرف البواطن ﴿جمعناكم والأولين﴾ يعني مكذبي هذه الأمة مع مكذبي الأمم قبلها يجمع الله سبحانه الخلائق في يوم واحد وفي صعيد واحد ﴿فإن كان لكم كيد فكيدون﴾ أي إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم وقيل إن هذا توبيخ من الله تعالى للكفار وتقريع لهم وإظهار لعجزهم عن الدفع عن أنفسكم فضلا عن أن يكيدوا غيرهم وإنما هو على أنكم كنتم تعملون في دار الدنيا ما يغضبني فالآن عجزتم عن ذلك وحصلتم على وبال ما عملتم ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ بهذا.