الآيات 1-5

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿1﴾ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴿2﴾ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿3﴾ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿4﴾ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿5﴾

القراءة:

قرأ عاصم ﴿يظاهرون﴾ بضم الياء وتخفيف الظاء وقرأ أهل البصرة وابن كثير يظهرون بتشديد الظاء والهاء وفتح الياء وقرأ الباقون يظاهرون بفتح الياء وتشديد الظاء وروي عن بعضهم ما هن أمهاتهم برفع التاء.

الحجة:

قال أبو علي ظاهر من امرأته وظهر مثل ضاعف وضعف وتدخل التاء على كل واحد منهما فيصير تظاهر وتظهر ويدخل حرف المضارعة فيصير يتظاهر ويتظهر ثم تدغم الطاء في الظاء لمقاربتها لها فتصير يظاهر ويظهر بفتح الياء التي هي حرف المضارعة لأنها للمطاوعة كما تفتحها في يتدحرج الذي هو مطاوع دحرجته فتدحرج ووجه الرفع في قوله (ما هن أمهاتهم) أنه لغة بني تميم قال سيبويه وهو أقيس الوجهين وذلك أن النفي كالاستفهام فكما لا يغير الاستفهام الكلام عما كان عليه في الواجب ينبغي أن لا يغيره النفي عما كان عليه في الواجب ووجه النصب أنه لغة أهل الحجاز والأخذ بلغتهم في القرآن أولى وعليها جاء ما هذا بشرا.

اللغة:

الاشتكاء إظهار ما بالإنسان من مكروه والشكاية إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه والتحاور التراجع وهي المحاورة يقال حاوره محاورة أي راجعه الكلام وتحاورا قال عنترة:

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

ولكان لو علم الكلام مكلمي

والمحادة المخالفة وأصله من الحد وهو المنع ومنه الحد الحاجز بين الشيئين قال النابغة:

إلا سليمان إذ قال المليك له

قم في البرية فاحددها عن الفند

الكبت مصدر كبت الله العدو أي أذله وأخزاه.

النزول:

نزلت الآيات في امرأة من الأنصار ثم من الخزرج واسمها خولة بنت خويلد عن ابن عباس وقيل خولة بنت ثعلبة عن قتادة ومقاتل وزوجها أوس بن الصامت وذلك أنها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها فلما انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها وكان امرءا فيه سرعة ولمم فقال لها أنت علي كظهر أمي ثم ندم على ما قال وكان الظهار من طلاق أهل الجاهلية فقال لها ما أظنك إلا وقد حرمت علي فقالت لا تقل ذلك وائت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاسأله فقال إني أجد أني أستحيي منه أن أسأله عن هذا قالت فدعني أسأله فقال سليه فأتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعائشة تغسل شق رأسه فقالت يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غانية ذات مال وأهل حتى إذا كل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبرت سني ظاهر مني وقد ندم فهل من شيء يجمعني وإياه فتنعشني به فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أراك إلا حرمت عليه فقالت يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا وأنه أبو ولدي وأحب الناس إلى فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أراك إلا حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإذا قال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حرمت عليه هتفت وقالت أشكو إلى الله فاقتي وحاجتي وشدة حالي اللهم فأنزل على لسان نبيك وكان هذا أول ظهار في الإسلام فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر فقالت أنظر في أمري جعلني الله فداك يا نبي الله فقالت عائشة أقصري حديثك ومجادلتك أ ما ترين وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات فلما قضي الوحي قال ادعي زوجك فتلا عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها﴾ إلى تمام الآيات قالت عائشة تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن المرأة لتحاور رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه إذ أنزل الله ﴿قد سمع﴾ فلما تلا عليه هذه الآيات قال له هل تستطيع أن تعتق رقبة قال إذا يذهب مالي كله والرقبة غالية وأني قليل المال فقال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين فقال والله يا رسول الله إني إذا لم آكل ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تغشى عيني قال فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا والله إلا أن تعينني على ذلك يا رسول الله فقال إني معينك بخمسة عشر صاعا وأنا داع لك بالبركة فأعانه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمسة عشر صاعا فدعا له البركة فاجتمع لهما أمرهما.

المعنى:

﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها﴾ أي تراجعك في أمر زوجها عن أبي العالية ﴿وتشتكي إلى الله﴾ وتظهر شكواها وما بها من المكروه فتقول اللهم إنك تعلم حالي فارحمني فإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا ﴿والله يسمع تحاوركما﴾ أي تخاطبكما ومراجعتكما الكلام ﴿إن الله سميع بصير﴾ أي يسمع المسموعات ويرى المرئيات والسميع البصير من هو على حالة يجب لأجلها أن يسمع المسموعات ويبصر المبصرات إذا وجدتا وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به ثم قال سبحانه يذم الظهار ﴿الذين يظاهرون منكم من نسائهم﴾ أي يقولون لهن أنتن كظهور أمهاتنا ﴿ما هن أمهاتهم﴾ أي ما اللواتي تجعلونهن من الزوجات كالأمهات بأمهات أي لسن بأمهاتهم ﴿إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم﴾ أي ما أمهاتهم إلا الوالدات ﴿وإنهم﴾ يعني المظاهرين ﴿ليقولون منكرا من القول﴾ لا يعرف في الشرع ﴿وزورا﴾ أي كذبا لأن المظاهر إذا جعل ظهر امرأته كظهر أمه وليست كذلك كان كاذبا ﴿وإن الله لعفو غفور﴾ عفا عنهم وغفر لهم وأمرهم بالكفارة ثم بين سبحانه حكم الظهار فقال ﴿والذين يظاهرون من نسائهم﴾ يعني الذين يقولون القول الذي حكيناه ﴿ثم يعودون لما قالوا﴾ اختلف المفسرون والفقهاء في معنى العود هنا فقيل إنه العزم على وطئها عن قتادة وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وقيل العود هو أن يمسكها بالعقد ولا يتبع الظهار بطلاق وذلك أنه إذا ظاهر منها فقد قصد التحريم فإن وصل ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه ولا كفارة وإذا سكت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلق فيه فذلك الندم منه على ما ابتدأه وهو عود إلى ما كان عليه فحينئذ تجب الكفارة وهو مذهب الشافعي واستدل على ذلك بما روي عن ابن عباس أنه فسر العود في الآية بالندم فقال يندمون ويرجعون إلى الألفة وقال الفراء يعودون لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما قالوا معناه يرجعون عما قالوا يقال عاد لما فعل أي نقض ما فعل ويجوز أن يقال عاد لما فعل يريد فعله مرة أخرى وقيل إن العود هو أن يكرر لفظ الظهار عن أبي العالية وهو مذهب أهل الظاهر واحتجوا بأن ظاهر لفظ العود يدل على تكرير القول قال أبو علي الفارسي ليس في هذا ظاهر كما ادعوا لأن العود قد يكون إلى شيء عليه قبل وقد سميت الآخرة معادا ولم يكن فيها أحد ثم صار إليها وقال الأخفش تقدير الآية والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم أي فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به من ذكر التحريم.

والتقديم والتأخير كثير في التنزيل وأما ما ذهب إليه أئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو أن المراد بالعود إرادة الوطء ونقض القول الذي قاله فإن الوطء لا يجوز له إلا بعد الكفارة ولا يبطل حكم قوله الأول إلا بعد الكفارة ﴿فتحرير رقبة﴾ أي فعليهم تحرير رقبة ﴿من قبل أن يتماسا﴾ أي من قبل أن يجامعها فيتماسا والتحرير هو أن يجعل الرقبة المملوكة حرة بالعتق بأن يقول المالك لمن يملكه أنت حر ﴿ذلكم توعظون به﴾ أي ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به أي أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار قاله الزجاج ﴿والله بما تعملون خبير﴾ أي عليم بأعمالكم فلا تدعوا ما وعظكم به من الكفارة قبل الوطء فيعاقبكم عليه ﴿فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا﴾ أي فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين قبل الجماع والتتابع عند أكثر الفقهاء أن يوالي بين أيام الشهرين الهلاليين أو يصوم ستين يوما وقال أصحابنا أنه إذا صام شهرا ومن الثاني شيئا ولو يوما واحدا ثم أفطر لغير عذر فقد أخطأ إلا أنه يبني عليه ولا يلزمه الاستئناف وإن أفطر قبل ذلك استأنف ومتى بدأ بالصوم وصام بعض ذلك ثم وجد الرقبة لا يلزمه الرجوع إليها وإن رجع كان أفضل وقال قوم أنه يلزمه الرجوع إلى العتق وقوله ﴿فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا﴾ أي فمن لم يطق الصوم لعلة أو كبر فإطعام ستين مسكينا فعليه إطعام ستين فقيرا لكل مسكين نصف صاع عند أصحابنا فإن لم يقدر فمد ﴿ذلك﴾ أي افترض ذلك الذي وصفناه ﴿لتؤمنوا بالله ورسوله﴾ أي لتصدقوا بما أتى به الرسول وتصدقوا بأن الله أمر به ﴿وتلك حدود الله﴾ يعني ما وصفه من الكفارات في الظهار أي هي شرائع الله وأحكامه ﴿وللكافرين عذاب أليم﴾ أي وللجاحدين المتعدين حدود الله عذاب مؤلم في الآخرة ﴿إن الذين يحادون الله ورسوله﴾ أي يخالفون أمر الله ويعادون رسوله ﴿كبتوا﴾ أي أذلوا وأخزوا ﴿كما كبت الذين من قبلهم﴾ أي كما أخزي الذين من قبلهم من أهل الشرك ﴿وقد أنزلنا آيات بينات﴾ أي حججا واضحات من القرآن وما فيه من الأدلة والبيان ﴿وللكافرين﴾ الجاحدين لما أنزلناه ﴿عذاب مهين﴾ يهينهم ويخزيهم فأما الكلام في مسائل الظهار وفروعها فموضعه كتب الفقه.