الآيات 108-115

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴿108﴾ يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ﴿109﴾ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴿110﴾ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴿111﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴿112﴾ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴿113﴾ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴿114﴾ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴿115﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير فلا يخف بالجزم والباقون ﴿فلا يخاف﴾ بالألف وقرأ يعقوب أن نقضي بالنون وحيه بالنصب والباقون ﴿يقضي﴾ بضم الياء ﴿وحيه﴾ بالرفع.

الحجة:

من قرأ فلا يخف فإنه على النهي ومن قرأ ﴿فلا يخاف﴾ فإنه على الخبر وتقديره فهو لا يخاف وموضع الفاء مع ما بعدها في الموضعين مجزوم ولكونه في موضع جواب الشرط والمبتدأ محذوف ومراد بعد الفاء وهو مؤمن في موضع نصب على الحال والعامل في الحال يعمل وذو الحال الذكر الذي في يعمل العائد إلى من ومن قرأ من قبل أن نقضي إليك وحيه فإنه أضاف القضاء إلى الله وجعل الوحي مفعوله والمعنى في القراءتين واحد.

اللغة:

الهمس إخفاء الكلام والصوت الخفي قال الراجز

وهن يمشين بنا هميسا

إن يصدق الطير نبك لميسا

يعني صوت أخفاف الإبل في سيرها والعنوة الخضوع والذل والعاني الأسير وأخذت الشيء عنوة أي غلبة تذل المأخوذ منه وقد يكون العنوة عن تسليم وطاعة لأنه على طاعة الذليل للعزيز قال الشاعر:

هل أنت مطيعي أيها القلب عنوة

ولم تلح نفس لم تلم في احتيالها

وقال آخر:

فما أخذوها عنوة عن مودة

ولكن بضرب المشرفي استفالها

والهضم النقص يقال هضمني حقي ويهضمني أي ينقصني وامرأة هضيم الحشا أي ضامرة الكشحين لنقصانه عن حد غيره ومنه هضمت المعدة الطعام أي نقصته مع تغييرها والعزم الإرادة المتقدمة لتوطين النفس على الفعل.

الإعراب:

﴿يومئذ﴾ ظرف ﴿يتبعون﴾ و﴿لا عوج له﴾ جملة في موضع الحال والتقدير يتبعون الداعي غير معوجين عن إجابة لأن معناه لا عوج لهم عن دعائه أي لا يقدرون على أن لا يتبعوه ﴿قرآنا﴾ منصوب على الحال و﴿عربيا﴾ صفته وفي الحقيقة الحال قوله عربيا وإنما ذكر قرآنا للبيان وكذلك الكاف في محل النصب بأنه صفة لمصدر محذوف.

المعنى:

ثم وصف سبحانه القيامة فقال ﴿يومئذ يتبعون الداعي﴾ أي يوم القيامة يتبعون صوت داعي الله الذي ينفخ في الصور وهو إسرافيل (عليه السلام) ﴿لا عوج له﴾ أي لدعاء الداعي ولا يعدل عن أحد بل يحشرهم جميعا عن أبي مسلم وقيل معناه لا عوج لهم عن دعائه لا يميلون عنه ولا يعدلون عن ندائه أي يتبعونه سراعا ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا عن الجبائي ﴿وخشعت الأصوات للرحمن﴾ أي خضعت الأصوات بالسكون لعظمة الرحمن عن ابن عباس ﴿فلا تسمع إلا همسا﴾ وهو صوت الأقدام عن ابن عباس وابن زيد أي لا تسمع من صوت أقدامهم إلا صوتا خفيا كما يسمع من وطىء الإبل وقيل الهمس إخفاء الكلام عن مجاهد وقيل معناه إن الأصوات العالية بالأمر والنهي في الدنيا ينخفض ويذل أصحابها فلا تسمع منهم إلا الهمس ﴿يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا﴾ أي لا تنفع ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره إلا شفاعة من أذن الله له في أن يشفع ورضي قوله فيها من الأنبياء والأولياء والصالحين والصديقين والشهداء ثم قال سبحانه ﴿يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾ الضمير يرجع إلى الذين يتبعون الداعي أي يعلم سبحانه جميع أقوالهم وأفعالهم قبل أن خلقهم وبعد أن خلقهم وما كان في حياتهم وبعد مماتهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم تقدم أو تأخر عن أبي مسلم وقيل يعلم ما بين أيديهم من أحوال الآخرة وما خلفهم من أحوال الدنيا ﴿ولا يحيطون به علما﴾ أي ولا يحيطون هم بالله علما أي بمقدوراته ومعلوماته وقيل بكنه عظمته في ذاته وأفعاله وقيل لا يحيطون علما بما بين أيديهم وما خلفهم إلا من أطلعه الله على ذلك عن الجبائي وقيل معناه ولا يدركونه بشيء من الحواس حتى يحيط علمهم به ﴿وعنت الوجوه للحي القيوم﴾ أي خضعت وذلت خضوع الأسير في يد من قهره والمراد خضع أرباب الوجوه واستسلموا الحكم للحي الذي لم يمت ولا يموت وإنما أسند الفعل إلى الوجوه لأن أثر الذل يظهر عليها وقيل المراد بالوجوه الرؤساء والقادة والملوك أي يذلون وينسلخون عن ملكهم وعزهم وقد سبق معنى الحي القيوم في مواضع ﴿وقد خاب من حمل ظلما﴾ أي وقد خاب عن ثواب الله من حمل شركا إلى يوم القيامة عن ابن عباس وقيل قد خسر الثواب من جاء يوم القيامة كافرا ظالما ﴿ومن يعمل من الصالحات﴾ أي ومن يعمل شيئا من الطاعات ﴿وهو مؤمن﴾ عارف بالله تعالى مصدق بما يجب التصديق به وإنما قال ذلك لأنه لا تنفع الطاعة من غير إيمان ﴿فلا يخاف ظلما ولا هضما﴾ أي لهو لا يخاف أن يظلم ويزاد عليه في سيئاته ولا أن يهضم أي ينقص من حسناته عن ابن عباس وقيل لا يخاف أن يؤخذ بذنب لم يعمله ولا أن تبطل حسنة عملها عن الضحاك وقيل لا يخاف ظلما بأن لا يجزي بعمله ولا هضما بالانتقاص من حقه عن ابن زيد ومن قرأ فلا يخف على النهي فمعناه فليأمن ولا يخف الظلم والهضم والنهي عن الخوف أمر بالأمن وفي هذه الآية دلالة على بطلان التحابط ﴿وكذلك﴾ أي وكما أخبرناك بأخبار القيامة ﴿أنزلناه﴾ أي أنزلنا هذا الكتاب ﴿قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد﴾ أي كررنا فيه من الوعيد وذكرناه على وجوه مختلفة وبيناه بألفاظ متفرقة ﴿لعلهم يتقون﴾ المعاصي وقيل ليتقي العرب من قبل أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك ﴿أو يحدث لهم ذكرا﴾ معناه أو يجدد القرآن لهم عظة واعتبارا أي يذكروا به عقاب الله للأمم فيعتبروا وقيل يحدث لهم شرفا بإيمانهم به وإنما أضاف إحداث الذكر إلى القرآن لأنه يقع عنده كما قال وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ﴿فتعالى الله الملك الحق﴾ أي ارتفعت صفاته عن صفات المخلوقين فلا يشبهه أحد في صفاته لأنه أقدر من كل قادر وأعلم من كل عالم وكل عالم وقادر سواه محتاج إليه وهو غني عنه وكل قادر وعالم قادر على شيء عاجز عن شيء عالم بشيء جاهل بشيء وما هو عالم به يجوز أن ينساه أو يسهو عنه فهو معرض الزوال والله سبحانه لم يزل عالما قادرا ولا يزال كذلك والملك الذي يملك الدنيا والآخرة والحق الذي يحق له الملك وكل ملك سواه يملك بعض الأشياء ويبيد ملكه ويفنى ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه﴾ فيه وجوه (أحدها) أن معناه لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبرائيل (عليه السلام) من إبلاغه فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأ معه ويعجل بتلاوته مخافة نسيانه أي تفهم ما يوحى إليك إلى أن يفرغ الملك من قراءته ولا تقرأ معه ثم اقرأ بعد فراغه منه وهذا كقوله ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به﴾ عن ابن عباس والحسن والجبائي (وثانيها) أن معناه ولا تقرأه لأصحابك ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معانيه عن مجاهد وقتادة وعطية وأبي مسلم (وثالثها) إن معناه ولا تسأل إنزال القرآن قبل أن يأتيك وحيه لأنه تعالى إنما ينزله بحسب المصلحة وقت الحاجة ﴿وقل رب زدني علما﴾ أي استزد من الله سبحانه علما إلى علمك روت عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه وقيل معناه زدني علما بقصص أنبيائك ومنازل أوليائك وقيل زدني قرآنا لأنه كلما ازداد من نزول القرآن عليه ازداد علما عن الكلبي ﴿ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما﴾ معناه أمرناه وأوصينا إليه أن لا يقرب الشجرة ولا يأكل منها فترك الأمر عن ابن عباس ولم نجد له عقدا ثابتا وقيل معناه فنسي من النسيان الذي هو السهو ولم نجد له عزما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمد عن ابن زيد وجماعة وقيل ولم نجد له حفظا لما أمر به عن عطية وقيل صبرا عن قتادة وروي عن ابن عباس أنه قال إنما أخذ الإنسان من أنه عهد إليه فنسي ومن حمله على النسيان فما الذي نسيه فيه أقوال (أحدها) أنه نسي الوعيد بالخروج من الجنتان أكل (والثاني) أنه نسي قول الله سبحانه ﴿إن هذا عدو لك ولزوجك﴾ (والثالث) أنه نسي الاستدلال على أن النهي عن الجنس وقد نهى عن الجنس فنسي وظن أن النهي عن العين.

النظم:

وجه اتصال قوله ﴿وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا﴾ بما قبله أنه يتصل بقوله ﴿كذلك نقص عليك﴾ وقيل أنه يتصل بما قبله من قصة موسى أي كما أنزلنا التوراة على موسى أنزلنا عليك القرآن ووجه اتصال قوله ﴿ولقد عهدنا إلى آدم﴾ الآية بما قبله أنه لما ذكر تصريف الآيات والقرآن وإن بها يتذكر أمره سبحانه بالتذكر وأن لا يكون مثل آدم في نسيان العهد وقيل إنه اتصل بقوله ﴿ولا تعجل بالقرآن﴾ أي لا تعجل خوف النسيان للفظه ولكن توكل على الله وسله التوفيق لحفظه فإن أباك آدم نسي ما عهد إليه وقيل أنه عطف على قوله ﴿وكذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق﴾ فقص عليه قصة آدم (عليه السلام) عن أبي مسلم.