الآيات 77-86

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ﴿77﴾ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴿78﴾ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ﴿79﴾ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ﴿80﴾ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ﴿81﴾ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴿82﴾ وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى ﴿83﴾ قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴿84﴾ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ﴿85﴾ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ﴿86﴾

القراءة:

قرأ حمزة لا تخف جزما والباقون ﴿لا تخاف﴾ وقرأ أهل الكوفة غير عاصم قد أنجيتكم وواعدتكم ورزقتكم وقرأ الباقون ﴿قد أنجيناكم﴾ و﴿واعدناكم﴾ و﴿رزقناكم﴾ بالنون وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب وسهل ووعدناكم بغير الألف والباقون بالألف وقرأ الكسائي فيحل بضم الحاء ومن يحلل بضم اللام والباقون بالكسر في الموضعين.

الحجة:

قال أبو علي من رفع قوله ﴿لا تخاف﴾ فإنه حال من الفاعل في أضرب أي غير خائف ولا خاش ويجوز أن يقطعه من الأول أي أنت لا تخاف ومن قرأ لا تخف جعله جواب الشرط أي إن تضرب لا تخف دركا ممن خلقك ولا تخش غرقا بين يديك فأما من قال لا تخف دركا ثم لا تخشى فيجوز أن يعطيه من الأول أي إن تضرب لا تخف وأنت لا تخشى ولا يحمله على قول الشاعر:

كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا

ولا على نحو

إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضيها ولا تملق لأن ذلك إنما يجيء في ضرورة الشعر كما أن قوله:

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد

كذلك ولكنك تقدر إنك حذفت الألف المنقلبة عن اللام ثم أشبعت الفتحة لأنها في فاصلة فأثبت الألف الناشئة عن إشباع الفتحة ومثل هذا مما ثبت في الفاصلة قوله فأضلونا السبيلا وقد جاء إشباع هذه الفتحة في كلامهم قال:

وأنت عن الغوائل حين ترمي

ومن ذم الرجال بمنتزاح

أي بمنتزح وحجة من قرأ وعدناكم إن ذلك يكون من الله سبحانه قال أبو الحسن زعموا أن واعدناكم لغة في وعدناكم فإذا كان كذلك فاللفظ لا يدل على أن الفعل من اثنين فيكون القراءة بوعد أحسن لأن واعد بمعنى وعد ويعلم من وعد أنه فعل واحد لا محالة وليس واعد كذلك فالأخذ بالأبين أولى ومن قرأ ﴿أنجيناكم﴾ و﴿واعدناكم﴾ فحجته قوله ﴿ونزلنا عليكم المن والسلوى﴾ وحجة من قرأ ﴿يحل﴾ بكسر الحاء أنه روي في زمزم إنه لشارب حل أي مباح له غير محظور عليه ولا ممنوع عنه فالحل والحلال في المعنى مثل المباح فهو خلاف الحظر والحجر والحرام والحرم فهذه الألفاظ معناها المنع والمباح من قولهم باح بالسر والأمر يبوح به إذا لم يجعل دونه حظرا فمعنى يحل عليكم ينزل بكم وينالكم بعد ما كان ذا حظر وحجر ومنع عنكم ووجه قراءة من قرأ ﴿يحل عليكم غضبي﴾ أن الغضب لما كان تتبعه العقوبة والعذاب جعله بمنزلة العذاب فقال يحل أي ينزل فجعله بمنزلة قولهم حل بالمكان يحل وعلى هذا جاء تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم فكما أن هذا عذاب قد أخبر عنه بأنه يحل كذلك أخبر عن الغضب بمثله وجعله بمنزلته لأنه يتبعه ويتصل به.

اللغة:

اليبس اليابس وجمعه أيباس وجمع اليبس بسكون الباء يبوس قال الكميت:

فما زدته إلا يبوسا وما أرى

لهم رحما والحمد لله

توصل قال أبو زيد حل عليه أمر الله يحل حلولا وحل الدار يحلها ولا وحل العقدة يحلها حلا وحل له الصوم يحل حلا وأحله الله إحلالا وحل عليه حقي يحل محلا وأحل الرجل من إحرامه إحلالا وحل يحل حلا والأسف أشد الغضب ويكون أيضا بمعنى الحزن.

الإعراب:

﴿هم أولاء﴾ مبتدأ وخبر ويجوز أن يكون أولاء بدلا من هم ويكون ﴿على أثري﴾ في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون ﴿على أثري﴾ في موضع نصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة في أولاء ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عن حال بني إسرائيل فقال ﴿ولقد أوحينا إلى موسى﴾ بعد ما رأى فرعون من الآيات فلم يؤمن هو ولا قومه ﴿أن أسر بعبادي﴾ أي سر بهم ليلا من أرض مصر ﴿فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا﴾ أي اجعل لهم طريقا في البحر يابسا بضربك العصا لينفلق البحر فعدي الضرب إلى الطريق لما دخله هذا المعنى فكأنه قد ضرب الطريق كما يضرب الدينار ﴿لا تخف دركا ولا تخشى﴾ أي لا تخاف أن يدركك فرعون من خلفك ولا تخشى من البحر غرقا ومن قرأ لا تخف بالجزم فمعناه لا تخف أن يدركك فرعون وأنت لا تخشى شيئا من أمر البحر مثل قوله يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ويجوز أن يكون في موضع الجزم على نحو ما ذكرناه في الحجة ﴿فأتبعهم فرعون بجنوده﴾ معناه ألحق جنوده بهم وبعث بجنوده خلفهم وفي أثرهم وفي الكلام حذف الهم فعلوا ذلك فدخل موسى وقومه البحر ثم اتبعهم فرعون بجنوده ﴿فغشيهم من اليم ما غشيهم﴾ أي جاءهم من البحر ما جاءهم ولحقهم منه ما لحقهم وفيه تعظيم للأمر ومعناه غشيهم الذي عرفتموه وسمعتم به ومثله قول أبي النجم أنا أبو النجم وشعري شعري أي شعري الذي سمعت به وعلمته أي هلك فرعون ونجي موسى هذا كان عاقبة أمرهم فليعتبر المعتبرون بهم ﴿وأضل فرعون قومه وما هدى﴾ أي صرفهم عن الهدى والحق وما هداهم إلى الخير والرشد وطريق النجاة وإنما قال ﴿وما هدى﴾ بعد قوله ﴿أضل﴾ ليتبين أنه استمر على ذلك وما زال يضلهم ولا يهديهم وحسن حذف المفعول لمكان رأس الآية وإنما قال سبحانه تكذيبا لقول فرعون لقومه وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ثم خاطب سبحانه بني إسرائيل وعدد نعمه عليهم فقال ﴿يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم﴾ فرعون بمرأى منكم ﴿وواعدناكم جانب الطور الأيمن﴾ وهو أن الله تعالى وعد موسى بعد أن أغرق فرعون ليأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة فيها بيان الشرائع والأحكام وما يحتاجون إليه ﴿ونزلنا عليكم المن والسلوى﴾ يعني في التيه وقد مر بيان ذلك في سورة البقرة ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ صورته صورة الأمر والمراد به الإباحة ﴿ولا تطغوا فيه﴾ أي فلا تتعدوا فيه فتأكلوه على الوجه المحرم عليكم وقيل إن المعنى لا تتجاوزوا عن الحلال إلى الحرام وقيل معناه لا تتناولوا من الحلال للاستعانة به على المعصية ﴿فيحل عليكم غضبي﴾ أي فيجب عليكم عقوبتي ومن ضم الحاء فالمعنى فينزل عليكم عقوبتي ﴿ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى﴾ أي هلك لأن من هوى من علو إلى سفل فقد هلك وقيل فقد هوى إلى النار قال الزجاج فقد صار إلى الهاوية ﴿وإني لغفار﴾ وهو فعال من المغفرة ﴿لمن تاب﴾ من الشرك ﴿وآمن﴾ بالله ورسوله ﴿وعمل صالحا﴾ أي أدى الفرائض ﴿ثم اهتدى﴾ أي ثم لزم الإيمان إلى أن يموت واستمر عليه وقيل ثم لم يشك في إيمانه عن ابن عباس وقيل ثم أخذ بسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يسلك سبيل البدعة عن ابن عباس أيضا والربيع بن أنس وقال أبو جعفر الباقر (عليه السلام) ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت (عليهم السلام) فو الله لو أن رجلا عبد الله عمره ما بين الركن والمقام ثم مات ولم يجيء بولايتنا لأكبه الله في النار على وجهه رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده وأورده العياشي في تفسيره من عدة طرق ﴿وما أعجلك عن قومك يا موسى﴾ قال ابن إسحاق كانت المواعدة أن يوافي الميعاد هو وقومه وقيل مع جماعته من وجوه قومه وهو متصل بقوله ﴿واعدناكم جانب الطور الأيمن﴾ فتعجل موسى من بينهم شوقا إلى ربه وخلفهم ليلحقوا به فقيل له ما أعجلك عن قومك يا موسى أي بأي سبب خلفت قومك وسبقتهم وجئت وحدك ﴿قال﴾ موسى في الجواب ﴿هم أولاء على أثري﴾ أي هؤلاء من ورائي يدركونني عن قريب وقيل معناه هم على ديني ومنهاجي عن الحسن وروي عنه أيضا أنه قال هم ينتظرون من بعدي ما الذي آتيهم به وليس يريد أنهم يتبعونه ﴿وعجلت إليك رب لترضى﴾ أي سبقتهم إليك حرصا على تعجيل رضاك أي لازداد رضا إلى رضاك ﴿قال﴾ الله تعالى ﴿فإنا قد فتنا قومك﴾ أي امتحناهم وشددنا عليهم التكليف بما حدث فيهم من أمر العجل فألزمناهم عند ذلك النظر ليعلموا أنه ليس بإله كما قال سبحانه ﴿أم حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون﴾ ﴿من بعدك﴾ أي من بعد انطلاقك ﴿وأضلهم السامري﴾ أي دعاهم إلى الضلال فقبلوا منه وضلوا عند دعائه فأضاف الضلال إلى السامري والفتنة إلى نفسه ليدل سبحانه على أن الفتنة غير الضلال وقيل إن معنى فتنا قومك عاملناهم معاملة المختبر المبتلي ليظهر لغيرنا المخلص منهم من المنافق فيوالي المخلص ويعادي المنافق ﴿فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا﴾ أي رجع موسى من الميقات إلى بني إسرائيل شديد الغضب حزينا عن ابن عباس وقيل جزعا عن مجاهد وقيل متحسرا متلهفا على ما فاته لأنه خشي أن لا يمكنه تدارك أمر قومه عن الجبائي ﴿قال يا قوم أ لم يعدكم ربكم وعدا حسنا﴾ أي صدقا لإيتاء الكتاب وهو التوراة لتعلموا ما فيه وتعلموا به فتستحقوا الثواب عن الجبائي وقيل الوعد الحسن هو ما وعدهم به من النجاة من فرعون ومجيئهم إلى جانب الطور ووعده بالمغفرة لمن تاب وقيل هو ما وعدهم به في الآخرة على التمسك بدينه في الدنيا عن الحسن ﴿أفطال عليكم العهد﴾ أي مدة مفارقتي إياكم ﴿أم أردتم أن يحل عليكم﴾ أي يجب عليكم ﴿غضب من ربكم﴾ بعبادتكم العجل والمعنى أم أردتم أن تصنعوا صنعا يكون سببا لغضب ربكم ﴿فأخلفتم موعدي﴾ أي ما وعدتموه لي من حسن الخلافة بعدي ويبين ذلك قوله بئسما خلفتموني من بعدي وقيل إن إخلافهم موعده أنه أمرهم اللحاق به فتركوا المسير على إثره للميقات وقيل هو أنه أمرهم أن يتمسكوا بطريقة هارون وطاعته ويعملوا بأمره إلى أن يرجع فخالفوه.