الآيات 45-56

قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ﴿45﴾ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴿46﴾ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴿47﴾ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴿48﴾ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴿49﴾ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴿50﴾ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ﴿51﴾ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ﴿52﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴿53﴾ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ﴿54﴾ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴿55﴾ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ﴿56﴾

القراءة:

قرأ نصر عن الكسائي خلقه بفتح اللام والباقون ﴿خلقه﴾ بسكون اللام وقرأ أهل الكوفة وروح وزيد عن يعقوب ﴿مهدا﴾ والباقون مهادا بالألف.

الحجة:

من قرأ ﴿أعطى كل شيء خلقه﴾ فالمعنى أعطى كل شيء صورته أي خلق كل حيوان على صورة أخرى ثم هداه ومن قرأ خلقه بفتح اللام فإنه جملة من الفعل والفاعل في موضع جر بأنه صفة شيء والمفعول الثاني لأعطى محذوف فكأنه أعطى كل شيء مخلوق ما أوجبه تدبيره ثم هداه السبيل والمهد مصدر كالفرش والمهاد كالفراش والبساط في قوله جعل لكم الأرض فراشا وفي موضع آخر بساطا ويجوز أن يكون المهد استعمل استعمال الأسماء فجمع كما يجمع فعل على فعال والأول أبين.

اللغة:

الفرط التقدم ومنه الفارط المتقدم إلى الماء قال قد فرط العجل علينا وعجل ومنه الإفراط الإسراف لأنه تقدم بين يدي الحق والتفريط التقصير لأنه تأخر عما يجب فيه التقدم قال الزجاج القرن أهل كل عصر فيهم نبي أو إمام أو عالم يقتدى به فإن لم يكن واحد منهم لم يسم قرنا والنهي جمع نهية وإنما قيل لأولي العقول أولو النهى لأنهم ينهون الناس عن القبائح وقيل لأنه ينتهي إلى آرائهم.

الإعراب:

﴿اسمع﴾ جملة في موضع الرفع بكونها خبرا بعد خبر ويجوز أن يكون في موضع النصيب على الحال.

﴿علمها عند ربي في كتاب﴾.

علمها مبتدأ وفي كتاب خبره وعند ربي معمول الخبر وتقديره علمها ثابت في كتاب عند ربي ويجوز أن يكون قوله ﴿عند ربي﴾ صفة لكتاب فلما تقدم انتصب على الحال تقديره في كتاب ثابت عند ربي ويجوز أن يكون عند ربي الخبر وفي كتاب بدل منه ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر وقوله ﴿لا يضل ربي﴾ تقدير لا يضل ربي عنه فحذف الجار والمجرور كما حذف من قوله ﴿واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا﴾ أي فيه.

﴿الذي جعل لكم الأرض﴾ يجوز أن يكون في موضع جر بأنه صفة ربي ويجوز أن يكون في موضع رفع بأن يكون خبر مبتدإ محذوف.

﴿من نبات﴾ في موضع نصب صفة لقوله ﴿أزواجا﴾ و﴿شتى﴾ صفة له أيضا فهي صفة بعد صفة وتارة منصوبة على المصدر.

المعنى:

لما أمر الله سبحانه موسى وهارون أن يمضيا إلى فرعون ويدعواه إليه ﴿قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا﴾ أي نخشى أن يتقدم فينا بعذاب ويعجل علينا ﴿أو أن يطغى﴾ أي يجاوز الحد في الإساءة بنا وقيل معناه أنا نخاف أن يبادر إلى قتلنا قبل أن يتأمل حجتنا أو أن يزداد كفرا إلى كفره بردنا ﴿قال لا تخافا إنني معكما﴾ بالنصرة والحفظ معناه إني ناصركما وحافظكما ﴿أسمع﴾ ما يسأله عنكما فألهمكما جوابه ﴿و أرى﴾ ما يقصدكما به فأدفعه عنكما فهو مثل قوله ﴿فلا يصلون إليكما﴾ ثم فسر سبحانه ما أجمله فقال ﴿فأتياه﴾ أي فأتيا فرعون ﴿فقولا إنا رسولا ربك﴾ أي أرسلنا إليك خالقك بما ندعوا إليه ﴿فأرسل معنا بني إسرائيل﴾ أي أطلقهم وأعتقهم عن الاستعباد ﴿ولا تعذبهم﴾ بالاستعمال في الأعمال الشاقة ﴿قد جئناك بآية من ربك﴾ أي بدلالة واضحة ومعجزة لائحة من ربك تشهد لنا بالنبوة ﴿والسلام على من اتبع الهدى﴾ قال الزجاج لم يرد بالسلام هنا التحية وإنما معناه إن من اتبع الهدى سلم من عذاب الله ويدل عليه قوله بعده ﴿أنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى﴾ أي إنما يعذب الله سبحانه من كذب بما جئنا به وأعرض عنه فأما من اتبعه فإنه يسلم من العذاب وهاهنا حذف وهو فأتياه فقالا له ما أمرهما الله تعالى به ثم ﴿قال﴾ لهما فرعون ﴿فمن ربكما﴾ أي فمن ربك وربه ﴿يا موسى﴾ وإنما قال ربكما على تغليب الخطاب وقيل تقديره فمن ربكما يا موسى وهارون فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر اختصارا ولتسوي رءوس الآي وأراد به فمن أي جنس من الأجناس ربكما حتى أفهمه فبين موسى أنه تعالى ليس له جنس وإنما يعرف سبحانه بأفعاله ﴿قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه﴾ معناه أعطى كل شيء خلقته أي صورته التي قدرها له ﴿ثم هدى﴾ أي هداه إلى مطعمه ومشربه ومنكحه وغير ذلك من ضروب هدايته عن مجاهد وعطية ومقاتل وقيل معناه أعطى كل شيء مثل خلقه أي زوجة من جنسه ثم هداه لنكاحه عن ابن عباس والسدي وقيل معناه أعطى خلقه كل شيء من النعم في الدنيا مما يأكلون ويشربون وينتفعون به ثم هداهم إلى طرق معايشهم وإلى أمور دينهم ليتوصلوا بها إلى نعم الآخرة عن الجبائي ﴿قال﴾ فرعون ﴿فما بال القرون الأولى﴾ أي فما حال الأمم الماضية فإنها لم تقر بالله وما تدعو إليه بل عبدت الأوثان ويعني بالقرون الأولى مثل قوم نوح وعاد وثمود ف ﴿قال﴾ موسى ﴿علمها عند ربي﴾ أي أعمالهم محفوظة عند الله يجازيهم بها والتقدير علم أعمالهم لها عند ربي ﴿في كتاب﴾ يعني اللوح المحفوظ والمعنى أن أعمالهم مكتوبة مثبتة عليهم وقيل المراد بالكتاب ما يكتبه الملائكة وقيل أيضا أن فرعون إنما قال فما بال القرون الأولى حين دعاه موسى إلى الإقرار بالبعث أي فما بالهم لم يبعثوا ﴿لا يضل ربي﴾ أي لا يذهب عليه شيء وقيل معناه لا يخطىء ربي ﴿ولا ينسى﴾ من النسيان عن أبي مسلم أي لا ينسى ما كان من أمرهم بل يجازيهم بأعمالهم وقيل معناه لا يغفل ولا يترك شيئا عن السدي ثم زاد في الأخبار عن الله تعالى فقال ﴿الذي جعل لكم الأرض مهدا﴾ أي فرشا ومهادا أي فراشا ﴿وسلك لكم فيها سبلا﴾ والسلك إدخال الشيء في الشيء والمعنى أدخل لكم أي لأجلكم في الأرض طرقا تسلكونها وقال ابن عباس سهل لكم فيها طرقا ﴿وأنزل من السماء ماء﴾ يعني المطر وتم الإخبار عن موسى ثم أخبر الله سبحانه عن نفسه فقال موصولا بما قبله من الكلام ﴿فأخرجنا به﴾ أي بذلك الماء ﴿أزواجا﴾ أي أصنافا ﴿من نبات شتى﴾ أي مختلفة الألوان أحمر وأبيض وأخضر وأصفر وكل لون منها زوج وقيل مختلفة الألوان والطعوم والمنافع فمنها ما يصلح لطعام الإنسان ومنها ما يصلح للتفكه ومنها ما يصلح لغير الإنسان من أصناف الحيوان ﴿كلوا﴾ أي مما أخرجنا لكم بالمطر من النبات والثمار ﴿وارعوا أنعامكم﴾ أي وأسيموا مواشيكم فيما أنبتناه بالمطر واللفظ للأمر والمراد الإباحة والتذكير بالنعمة ﴿إن في ذلك﴾ أي فيما ذكر ﴿لآيات﴾ أي دلالات ﴿لأولي النهى﴾ أي لذوي العقول الذين ينتهون عما حرم الله عليهم عن الضحاك وقيل لذوي الورع عن قتادة وقيل لذوي التقى عن ابن عباس ﴿منها خلقناكم﴾ أي من الأرض خلقنا أباكم آدم (عليه السلام) ﴿و فيها نعيدكم﴾ أي وفي الأرض نعيدكم إذا أمتناكم ﴿ومنها نخرجكم تارة أخرى﴾ أي دفعة أخرى إذا حشرناكم ﴿ولقد أريناه﴾ يعني فرعون ﴿آياتنا كلها﴾ يعني الآيات التسع أي معجزاتنا الدالة على نبوة موسى ﴿فكذب﴾ بجميع ذلك ﴿وأبى﴾ أن يؤمن به وقيل معناه فجحد الدليل وأبى القبول ولم يرد سبحانه بذلك جميع آياته التي يقدر عليها ولا كل آية خلقها وإنما أراد كل الآيات التي أعطاها موسى.

النظم:

ووجه اتصال قوله فما بال القرون الأولى بما قبله من الدعاء إلى التوحيد أن فرعون لما ظهرت المعجزات ودلائل التوحيد على يد موسى تحير وخاف الفضيحة فأقبل على نوع آخر من السؤال تلبيسا وكثيرا ما يفعل ذلك أهل البدع عند ظهور الحجة وقيل لما دعاه موسى إلى الإقرار بالبعث قال فما بال أولئك القرون لم يبعثوا.