الآيات 97-99

الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿97﴾ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿98﴾ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿99﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو دائرة السوء بضم السين وفي سورة الفتح مثله والباقون بفتح السين وقرأ ورش وإسماعيل عن نافع قربة بضم الراء والباقون ﴿قربة﴾ بسكون الراء.

الحجة:

قال أبو علي الدائرة لا تخلو إما أن تكون صفة أو بمنزلة العاقبة والعافية والصفة أكثر في الكلام فينبغي أن يحمل عليها فالمعني عليها أنها خلة تحيط بالإنسان حتى لا يكون له منها مخلص وأضيفت إلى السوء أو إلى السوء على الوجهين على وجه التأكيد والزيادة في التبيين ولو لم تضف لعلم هذا المعنى منها كما أن نحو قوله شمس النهار كذلك والسوء الرداءة والفساد وهو خلاف الصدق الذي في قولك ثوب صدق وليس الصدق من صدق اللسان كما أن السوء ليس من سؤته في المعنى وإن كان اللفظ واحدا يدلك على ذلك أنك أضفته إلى ما لا يجوز عليه الصدق والكذب في الأخبار وأما دائرة السوء بالضمة فكقولك دائرة الهزيمة ودائرة البلاء فاجتمعا في جواز إضافة الدائرة إليهما من حيث أريد بكل واحد منهما الرداءة والفساد فمن قال ﴿دائرة السوء﴾ فتقديره الإضافة إلى الرداءة والفساد ومن قال دائرة السوء فتقديره دائرة الضرر والمكروه من قولهم سؤته مساءة ومسائية والمعنيان متقاربان قال أبو الحسن ﴿دائرة السوء﴾ كما تقول رجل السوء وأنشد:

وكنت كذئب السوء لما رأى دما

بصاحبه يوما أحال على الدم وأما قوله ﴿قربة﴾ فالأصل حركة الراء والإسكان للتخفيف كما في الرسل والكتب والأذن والطنب وأما قربات فينبغي أن يثقل لأنه إذا ثقل ما أصله التخفيف نحو الظلمات والغرفات فإن تقر الحركة الثانية في الكلمة الواحدة أجدر ومثل قولهم قربة وقربة يسرة ويسرة هدنة وهدنة حكاه محمد بن يزيد.

اللغة:

رجل عربي إذا كان من العرب وإن سكن البلاد ورجل أعرابي إذا كان ساكنا في البادية والعرب صنفان عدنانية وقحطانية والفضل للعدنانية برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأجدر مأخوذ من جدر الحائط بسكون الدال وهو أصله وأساسه والمغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير خيانة وأصله لزوم الأمر ومنه قوله إن عذابها كان غراما أي لازما وحب غرام أي لازم والغريم يقال لكل واحد من المتداينين للزوم أحدهما الآخر وغرمته كذا أي ألزمته إياه في ماله والتربص الانتظار ومنه التربص بالطعام لزيادة الأسعار وأصله التمسك بالشيء لعاقبة والدوائر جمع دائرة هي من حوادث الدهر وقيل الحال المنقلبة عن النعمة إلى البلية والدائرة الدولة والقربة هي طلب الثواب والكرامة من الله تعالى بحسن الطاعة.

الإعراب:

﴿أجدر ألا يعلموا﴾ أن في موضع نصب لأن الباء محذوفة والمعنى أجدر بترك العلم تقول أنت جدير أن تفعل وجدير بأن تفعل أي هذا الفعل ميسر لك وإذا حذفت الباء لم يصلح إلا بأن وإن أثبت الباء صلح بأن وغيرها تقول أنت جدير بأن تقوم وجدير بالقيام وإنما صلح مع أن الحذف لأن أن يدل على الاستقبال فكأنهما عوض من المحذوف و﴿صلوات الرسول﴾ عطف على قوله ﴿ما ينفق﴾ وموضعه نصب وتقديره ويتخذ النفقة وصلوات الرسول ويتخذ قربات وقيل صلوات معطوف على قربات على معنى يطلبون بالإنفاق قربة الله وصلوات الرسول عن الجبائي.

المعنى:

لما تقدم ذكر المنافقين بين سبحانه أن الأعراب منهم أشد في ذلك وأكثر جهلا فقال ﴿الأعراب أشد كفرا ونفاقا﴾ يريد الأعراب الذين كانوا حول المدينة وإنما كان كفرهم أشد لأنهم أقسى وأجفى من أهل المدن وهم أيضا أبعد من سماع التنزيل وإنذار الرسل عن الزجاج ومعناه أن سكان البوادي إذا كانوا كفارا أو منافقين فهم أشد كفرا من أهل الحضر لبعدهم عن مواضع العلم واستماع الحجج ومشاهدة المعجزات وبركات الوحي ﴿وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله﴾ أي وهم أحرى وأولى بأن لا يعلموا حدود الله في الفرائض والسنن والحلال والحرام ﴿والله عليم﴾ بأحوالهم ﴿حكيم﴾ فيما يحكم به عليهم ﴿ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما﴾ أي ومن منافقي الأعراب من يعد ما ينفق في الجهاد وفي سبيل الخير مغرما لحقه لأنه لا يرجو به ثوابا ﴿ويتربص بكم الدوائر﴾ أي وينتظر بكم الدوائر أي صروف الزمان وحوادث الأيام والعواقب المذمومة قال الزجاج والفراء كانوا يتربصون بهم الموت أو القتل فكانوا ينتظرون موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليرجعوا إلى دين المشركين وأكثر ما يستعمل الدائرة في زوال النعمة إلى الشدة والعافية إلى البلاء ويقولون كانت الدائرة عليهم وكانت الدائرة لهم ثم رد سبحانه ذلك عليهم فقال ﴿عليهم دائرة السوء﴾ أي على هؤلاء المنافقين دائرة البلاء يعني أن ما ينتظرون بكم هؤلاء حق بهم وهم المغلبون أبدا ﴿والله سميع﴾ لمقالاتهم ﴿عليم﴾ بنياتهم لا يخفى عليه شيء من حالاتهم بين سبحانه من الأعراب المؤمنين فقال ﴿ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر﴾ ومنهم من يرجع إلى سلامة الاعتقاد في التصديق بالله وبالقيامة والجنة والنار ﴿ويتخذ ما ينفق قربات عند الله﴾ أي ويريد بنفقته في الجهاد وغير ذلك من أعمال البر قربات جمع قربة وهي الطاعة أي طاعات عند الله وتعظيم أمره ورعاية حقه وقيل معناه يتقرب إلى الله بإنفاقه ويطلب بذلك ثوابه ورضاه ﴿وصلوات الرسول﴾ أي دعاؤه بالخير والبركة عن قتادة وقيل استغفاره عن ابن عباس والحسن ومعناه أنه يرغب في دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿ألا إنها قربة لهم﴾ معناه ألا أن صلوات الرسول قربة لهم تقربهم إلى ثواب الله ويجوز أن يكون المعنى إن نفقتهم قربة لهم إلى الله ﴿سيدخلهم الله في رحمته﴾ هذا وعد منه سبحانه بأن يرحمهم ويدخلهم الجنة وفيه مبالغة بأن الرحمة غمرتهم ووسعتهم ﴿إن الله غفور﴾ لذنوبهم ﴿رحيم﴾ بأهل طاعته وهما من ألفاظ المبالغة في الوصف بالمغفرة والرحمة.