الآيات 37-44

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴿37﴾ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴿38﴾ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴿39﴾ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴿40﴾ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴿41﴾ اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴿42﴾ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿43﴾ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴿44﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر ولتصنع بالجزم والباقون بكسر اللام والنصب وفي الشواذ قراءة أبي نهيك ولتصنع بكسر اللام وفتح التاء.

الحجة:

قوله ﴿ولتصنع﴾ بالجزم مثل قولهم ولتعن بحاجتي فالمأمور غائب غير مخاطب لأن العاني بالحاجة غير المخاطب وليس ذلك مثل قوله ﴿فليفرحوا﴾ فإن المأمور هناك مخاطب به ﴿ولتصنع على عيني﴾ قال أحمد بن يحيى معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني وقراءة الفراء ﴿ولتصنع على عيني﴾ بضم التاء وفتح العين معناه لتربى وتغذى بمرأى مني.

اللغة:

أصل المن القطع ومنه أجر غير ممنون وحبل منين أي منقطع فالمن نعمة تقطع لصاحبها من غيره والمرة الكرة الواحدة من المر والقذف الطرح واليم البحر والاصطناع افتعال من الصنع والصنع اتخاذ الخير لصاحبه وونى في الأمر يني ونيا وونى ذا افتر فهو وان ومتوان فيه قال العجاج:

فما ونى محمد مذ أن غفر

له الإله ما مضى وما غبر

الإعراب:

مرة ويحتمل أن يكون مصدرا ويحتمل أن يكون ظرفا ويكون التقدير مرة أخرى أو وقتا آخر.

﴿ما يوحى﴾ ما مصدرية وتقديره وأوحينا إلى أمك إيحاء و﴿إن اقذفيه﴾ في موضع نصب بأنه مفعول أوحينا ولتصنع اللام يتعلق بالقيت أي لتربى ﴿ولتصنع﴾ وقوله ﴿على قدر﴾ في موضع النصب على الحال وتقديره جئت مقدرا ما قدر لك.

المعنى:

لما أخبر سبحانه موسى بأنه آتاه طلبته وأعطاه سؤله عدد عقيبه ما تقدم ذلك من نعمه عليه ومننه لديه فقال ﴿ولقد مننا عليك مرة أخرى﴾ أي أنعمنا عليك من صغرك إلى كبرك جارية نعمتنا عليك متوالية فإجابتنا الآن دعاك تلوها ثم فسر سبحانه تلك النعمة فقال ﴿إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى﴾ أي حين أوحينا إلى أمك أي ألهمناها ما يلهم وهو ما كان فيه سبب نجاتك من القتل حتى عنيت بأمرك وقيل كانت رأت في المنام عن الجبائي ثم فسر ذلك الإيحاء فقال ﴿أن اقذفيه في التابوت﴾ أي اجعليه فيه بأن ترميه فيه ﴿فاقذفيه في اليم﴾ يريد النيل ﴿فليلقه اليم بالساحل﴾ وهو شط البحر لفظه أمر فكأنه أمر البحر كما أمر أم موسى والمراد به الخبر والمعنى حتى يلقيه البحر بالشط ﴿يأخذه عدو لي وعدو له﴾ يعني فرعون كان عدوا لله ولأنبيائه وعدوا لموسى خاصة لتصوره إن ملكه ينقرض على يده وكانت هذه المنة من الله سبحانه على موسى أن فرعون كان يقتل غلمان بني إسرائيل ثم خشي أن يفنى نسلهم فكان يقتل بعد ذلك في سنة ولا يقتل في سنة فولد موسى في السنة التي كان يقتل الغلمان فيها فنجاه الله تعالى منه ﴿وألقيت عليك محبة مني﴾ أي جعلتك بحيث يحبك من يراك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره وأحبتك امرأته آسية بنت مزاحم فتبنتك وربتك في حجرها عن عكرمة وقيل معناه حببتك إلى عبادي فلا يلقاك أحد مؤمن ولا كافر إلا أحبك عن ابن عباس وهذا كما يقال ألبسه الله جمالا وألقى عليه جمالا وقال قتادة ملاحة كانت في عين موسى فما رآه أحد إلا عشقه ﴿ولتصنع على عيني﴾ أي لتربى وتغذى بمرأى مني أي يجري أمرك على ما أريد بك من الرفاهة في غذائك عن قتادة وذلك أن من صنع لإنسان شيئا وهو ينظر إليه صنعه كما يحب ولا يتهيأ له خلافه وقيل لتربى ويطلب لك الرضاع على علم مني ومعرفة لتصل إلى أمك عن الجبائي وقيل لتربى وتغذى بحياطتي وكلاءتي وحفظي كما يقال في الدعاء بالحفظ والحياطة عين الله عليك عن أبي مسلم ﴿إذ تمشي أختك فتقول﴾ الظرف يتعلق بتصنع والمعنى ولتصنع على عيني قدرنا مشي أختك وقولها ﴿هل أدلكم على من يكفله﴾ لأن هذا كان من أسباب تربية موسى على ما أراده الله وهو قوله ﴿إذ تمشي أختك﴾ يعني حين قالت لها أم موسى قصيه فاتبعت موسى على إثر الماء وذلك أن أم موسى اتخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا ووضعته فيه وألقته في النيل وكان يشرع من النيل نهر كبير في باغ فرعون فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذ التابوت يجيء على رأس الماء فأمر بإخراجه فلما فتحوا رأسه إذا صبي به من أحسن الناس وجها فأحبه فرعون بحيث لا يتمالك وجعل موسى يبكي ويطلب اللبن فأمر فرعون حتى أتته النساء اللاتي كن حول داره فلم يأخذ موسى من لبن واحدة منهن وكانت أخت موسى واقفة هناك إذا أمرتها أمها أن تتبع التابوت فقالت إني آتي بامرأة ترضعه وذلك قوله ﴿فتقول هل أدلكم على من يكفله﴾ أي أدلكم على امرأة تربيه وترضعه وهي ناصحة له فقالوا نعم فجاءت بالأم فقبل ثديها فذلك قوله ﴿فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها﴾ برؤيتك وبقائك ﴿ولا تحزن﴾ من خوف قتله أو غرقه وذلك أنها حملته إلى بيتها آمنة مطمئنة قد جعل لها فرعون أجرة على الرضاع ﴿وقتلت نفسا﴾ كان قتل قبطيا كافرا عن ابن عباس وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال رحم الله أخي موسى قتل رجلا خطأ وكان ابن اثنتي عشرة سنة ﴿فنجيناك من الغم﴾ أي من غم القتل وكربه لأنه خاف أن يقتصوا منه بالقبطي فالمعنى خلصناك من غم القصاص وآمناك من الخوف ﴿وفتناك فتونا﴾ أي اختبرناك اختبارا ومعناه أنا عاملناك معاملة المختبر حتى خلصت للاصطفاء بالرسالة وكان هذا من أكبر نعمه سبحانه عليه وقيل معناه وخلصناك من محنة بعد محنة منها أنه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال فيها ثم إلقاؤه في اليم ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله ثم تناوله الجمرة بدل الدرة فدرأ ذلك عنه قتل فرعون ثم مجيء رجل من شيعته يسعى ليخبره بما عزموا عليه من قتله عن ابن عباس فعلى هذا يكون المعنى وخلصناك من المحن تخليصا وقيل معناه وشددنا عليك التعمد في أمر المعاش حتى رعيت لشعيب عشر سنين ثم بين ذلك فقال ﴿فلبثت سنين في أهل مدين﴾ أي لبثت فيهم حين كنت راعيا لشعيب ﴿ثم جئت على قدر يا موسى﴾ أي في الوقت الذي قدر لإرسالك نبيا قال الشاعر:

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربه موسى على قدر

وقيل معناه جئت على الوقت الذي يوحى فيه إلى الأنبياء وهو على رأس أربعين سنة وقيل على المقدار الذي قدره الله لمجيئك وكتبه في اللوح المحفوظ والمعنى جئت في الوقت الذي قدره الله لكلامك ونبوتك والوحي إليك ﴿واصطنعتك لنفسي﴾ أي لوحيي ورسالتي عن ابن عباس والمعنى اخترتك واتخذتك صنيعتي وأخلصتك لتنصرف على إرادتي ومحبتي وإنما قال لنفسي لأن المحبة أخص شيء بالنفس وتبليغه الرسالة وقيامه بأدائها تصرف على إرادة الله ومحبته وقيل معناه اخترتك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في التبليغ عني بالمنزلة التي أنا أكون بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم عن الزجاج ﴿اذهب أنت وأخوك بآياتي﴾ أي بحججي ودلالاتي وقيل بالآيات التسع عن ابن عباس ﴿و لا تنيا في ذكري﴾ أي ولا تضعفا في رسالتي عن ابن عباس وقيل ولا تفترا في أمري عن السدي وقيل ولا تقصرا عن محمد بن كعب أي لا يحملنكما خوف فرعون على أن تقصرا في أمري ﴿اذهبا إلى فرعون﴾ كرر الأمر بالذهاب للتأكيد وقيل إن في الأول خص موسى بالأمر وفي الثاني أمرهما ليصيرا نبيين وشريكين في الأمر ثم بين من يذهبان إليه ﴿أنه طغى﴾ أي جاوز الحد في الطغيان ﴿فقولا له قولا لينا﴾ أي ارفقا به في الدعاء والقول ولا تغلظا له في ذلك عن ابن عباس وقيل معناه كنياه عن السدي وعكرمة وكنيته أبو الوليد وقيل أبو العباس وقيل أبو مرة وقيل إن القول اللين هو هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى عن مقاتل وقيل هو أن موسى أتاه فقال له تسلم وتؤمن برب العالمين على أن لك شبابك فلا تهرم وتكون ملكا لا ينزع الملك منك حتى تموت ولا تنزع منك لذة الطعام والشراب والجماع حتى تموت فإذا مت دخلت الجنة فأعجبه ذلك وكان لا يقطع أمرا دون هامان وكان غائبا فلما قدم هامان أخبره بالذي دعاه إليه وأنه يريد أن يقبل منه فقال هامان قد كنت أرى أن لك عقلا وإن لك رأيا بينا أنت رب وتريد أن تكون مربوبا وبينا أنت تعبد وتريد أن تعبد فقلبه عن رأيه وكان يحيى بن معاذ يقول هذا رفقك بمن يدعي الربوبية فكيف رفقك بمن يدعي العبودية ﴿لعله يتذكر أو يخشى﴾ أي ادعواه على الرجاء والطمع لا على اليأس من فلاحه فوقع التعبد لهما على هذا الوجه لأنه أبلغ لهما في دعائه إلى الحق قال الزجاج والمعنى في هذا عند سيبويه اذهبا على رجائكما وطمعكما والعلم من الله قد أتى من وراء ما يكون وإنما يبعث الرسل وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم والمراد بيان الغرض بالبعثة أي ليتذكر ما أغفل عنه من ربوبية الله تعالى وعبودية نفسه ويخشى العقاب والوعيد في قوله سبحانه ﴿فقولا له قولا لينا﴾ على دلالة وجواب يرفق في الدعاء إلى الله وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون أسرع إلى القبول وأبعد من النفور وقيل إن هارون كان بمصر فلما أوحى الله تعالى إلى موسى أن يأتي مصر أوحى إلى هارون أن يتلقى موسى فتلقاه على مرحلة ثم ائتمرا وذهبا إلى فرعون.