الآيات 9-16

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴿9﴾ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴿10﴾ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى ﴿11﴾ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴿12﴾ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴿13﴾ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴿14﴾ إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴿15﴾ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴿16﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو أني أنا ربك بفتح الألف والباقون ﴿إني﴾ بالكسر وقرأ حمزة لأهله امكثوا وفي القصص أيضا بضم الهاء وأنا مشدد مفتوح الهمزة اخترناك على الجمع والباقون ﴿لأهله﴾ بكسر الهاء و﴿أنا اخترتك﴾ على التوحيد وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة طوى بالتنوين والباقون بغير تنوين وفي الشواذ قراءة الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير أخفيها بفتح الألف.

الحجة:

قال أبو علي من كسر إني فلأن الكلام حكاية كأنه نودي فقيل يا موسى إني أنا ربك ومن فتح فكان المعنى نودي بكذا ونادى قد يوصل بحرف الجر قال:

ناديت باسم ربيعة بن مكرم

إن المنوة باسمه الموثوق

ومن الناس من يعمل هذه الأشياء التي هي في المعنى قول كما يعمل القول ولا يضمر القول معها وينبغي أن يكون في نودي ضمير يقوم مقام الفاعل لأنه لا يجوز أن يقوم واحد من قوله ﴿يا موسى﴾ ولا ﴿إني أنا ربك﴾ مقام الفاعل لأنها جمل والجمل لا تقوم مقام الفاعل فإن جعلت الاسم الذي يقوم مقام الفاعل موسى لأن ذكره قد جرى كان مستقيما وقوله ﴿طوى﴾ يصرف ولا يصرف فمن صرفه فعلى وجهين (أحدهما) أن يجعله اسم الوادي فيصرفه لأنه سمي مذكرا بمذكر (والآخر) أن يجعله صفة وذلك في قول من قال إنه قدس مرتين فيكون طوى كقولك ثنى ويكون صفة كقوله مكانا سوى وقوم عدى وجاء في طوى الضم والكسر كما جاء في مكان سوى الضم والكسر قال الشاعر:

أفي جنب بكر قطعتني ملامة

لعمري لقد كانت ملامتها ثني

أي ليس هذا بأول ملامتها ومن لم يصرف احتمل أمرين (أحدهما) أن يكون اسما لبقعة أو أرض فهو مذكر فيكون بمنزلة امرأة سميتها بحجر ويجوز أن يكون معدولا كعمر ولا يمتنع أن تقدر العدل فيما لم يخرج إلى الاستعمال أ لا ترى أن جمع وكتع معدولتان عما لم يستعملا فكذلك يكون طوى وأما ضم الهاء في قوله ﴿لأهله امكثوا﴾ فقد مضى القول في مثله وأما قوله ﴿وأنا اخترتك﴾ فالإفراد أكثر في القراءة وهو أشبه بما قبله من قوله ﴿إني أنا ربك﴾ ووجه الجمع أن يكون ذلك قد جاء في نحو قوله تعالى سبحان الذي أسرى ثم قال وآتينا موسى الكتاب ويمكن أن يكون الوجه في قراءة حمزة وإنا اخترناك مع أنه قرأ إني أنا ربك بالكسر أن يكون التقدير ولأنا اخترناك فاستمع فيكون الجار والمجرور في موضع نصب بقوله ﴿فاستمع﴾ ولم يذكر الشيخ أبو علي وقوله ﴿أخفيها﴾ فإنهم قالوا معناه أظهرها قال أبو علي الغرض فيه أزيل عنها خفاءها وهو ما يلف فيه القربة ونحوها من كساء وما يجري مجراه وعليه قول الشاعر:

لقد علم الأيقاظ أخفية الكرى

تزججها من حالك فاكتحالها

قال أراد بالأيقاظ عيونا فجعل العين كالخفاء للنوم كأنها تستره وهو من ألفاظ السلب فأخفيته سلبت عنه خفاه كما تقول أشكيت الرجل أزلت عنه ما يشكوه وأما أخفيها بفتح الألف فإنه أظهرها قال امرؤ القيس.

خفاهن من أنفاقهن كأنما

خفاهن ودق من سحاب مركب

وقوله:

فإن تدفنوا الداء لا نخفه

وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

رواية أبي عبيدة بضم النون من نخفه ورواية الفراء بفتح النون.

اللغة:

الإيناس وجدان الشيء الذي يؤنس به والقبس الشعلة من النار في طرف عود أو قصبة والخلع نزع الملبوس يقال خلع ثوبه وخلع نعله والوادي سفح الجبل ويقال للمجرى العظيم من مجاري الماء واد وأصله عظم الأمر ومنها الدية لأنها العطية في الأمر العظيم وهو القتل والمقدس المطهر قال امرؤ القيس:

كما شبرق الولدان ثوب المقدس

يريد العابد من النصارى كالقسيس ونحوه وسمي الوادي طوى لأنه طوي بالبركة مرتين عن الحسن فعلى هذا يكون مصدر قولك طويت طوى قال عدي بن زيد:

أعاذل إن اللوم في غير كنهه

علي طوى من غيك المتردد

ويقال أخفيت الشيء كتمته وأظهرته جميعا وخفيته بلا ألف أظهرته لا غير والردى الهلاك وردي يردى ردى إذا هلك وتردى بمعناه.

الإعراب:

قوله ﴿إذ رءا﴾ الظرف يتعلق بمحذوف فهو في موضع النصب على الحال من حديث موسى و﴿أكاد أخفيها﴾ جملة في موضع رفع بأنها خبر إن فهي خبر بعد خبر.

اللام في ﴿لتجزى﴾ يتعلق بآتية ويجوز أن يتعلق بقوله ﴿وأقم الصلاة﴾ فتردي منصوب بإضمار أن في جواب النهي.

المعنى:

ثم خاطب الله سبحانه نبيه تسلية له مما ناله من أذى قومه وتثبيتا له بالصبر على أمر ربه كما صبر موسى (عليه السلام) حتى نال الفوز في الدنيا والآخرة فقال ﴿وهل أتاك حديث موسى﴾ هذا ابتداء إخبار من الله تعالى على وجه التحقيق إذ لم يبلغه حديث موسى فهو كما يخبر الإنسان غيره بخبر على وجه التحقيق فيقول هل سمعت بخبر فلان وقيل إنه استفهام تقرير بمعنى الخبر أي وقد أتاك حديث موسى ﴿إذ رءا نارا﴾ عن ابن عباس قال وكان موسى رجلا غيورا لا يصحب الرفقة لئلا ترى امرأته فلما قضى الأجل وفارق مدين خرج ومعه غنم له وكان أهله على أتان وعلى ظهرها جوالق فيها أثاث البيت فأضل الطريق في ليلة مظلمة وتفرقت ماشيته ولم ينقدح زنده وامرأته في الطلق فرأى نارا من بعيد كانت عند الله نورا وعند موسى نارا ﴿فقال﴾ عند ذلك ﴿لأهله﴾ وهي بنت شعيب كان تزوجها بمدين ﴿امكثوا﴾ أي الزموا مكانكم قال مقاتل وكانت ليلة الجمعة في الشتاء والفرق بين المكث والإقامة أن الإقامة تدوم والمكث لا يدوم ﴿إني آنست نارا﴾ أي أبصرت نارا ﴿لعلي آتيكم منها بقبس﴾ أي بشعلة أقتبسها من معظم النار تصطلون بها ﴿أو أجد على النار هدى﴾ أي أجد على النار هاديا يدلني على الطريق وقيل علامة استدل بها على الطريق والهدى ما يهتدي به فهو اسم ومصدر قال السدي لأن النار لا تخلو من أهل لها وناس عندها ﴿فلما أتاها﴾ قال ابن عباس لما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب فوقف متعجبا من حسن ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة فسمع النداء من الشجرة وهو قوله ﴿نودي يا موسى إني أنا ربك﴾ والنداء الدعاء على طريقة يا فلان فمن فتح الألف من إني فالمعنى نودي بأني ومن كسر فالمعنى نودي فقيل إني أنا ربك الذي خلقك ودبرك قال وهب نودي من الشجرة فقيل يا موسى فأجاب سريعا ما يدري من دعاه فقال إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لربه عز وجل وأيقن به وإنما علم موسى (عليه السلام) أن ذلك النداء من قبل الله تعالى لمعجز أظهره الله سبحانه كما قال في موضع آخر إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك إلى آخره وقيل أنه لما رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها تتوقد فيها نار بيضاء وسمع تسبيح الملائكة ورأى نورا عظيما لم تكن الخضرة تطفىء النار ولا النار تحرق الخضرة تحير وعلم أنه معجز خارق للعادة وأنه لأمر عظيم فألقيت عليه السكينة ثم نودي إني أنا ربك وإنما كرر الكناية لتأكيد الدلالة وإزالة الشبهة وتحقيق المعرفة ﴿فاخلع نعليك﴾ أي انزعهما وقيل في السبب الذي أمر بخلع النعلين أقوال (أحدها) أنهما كانتا من جلد حمار ميت عن كعب وعكرمة وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) (وثانيها) كانتا من جلد بقرة ذكية ولكنه أمر بخلعهما ليباشر بقدميه الأرض فتصيبه بركة الواد المقدس عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن جريج (وثالثها) أن الحفاء من علامة التواضع ولذلك كانت السلف تطوف حفاة عن الأصم (ورابعها) أن موسى (عليه السلام) إنما لبس النعل اتقاء من الأنجاس وخوفا من الحشرات فآمنه الله مما يخاف وأعلمه بطهارة الموضع عن أبي مسلم ﴿إنك بالواد المقدس﴾ أي المبارك عن ابن عباس بورك فيه بسعة الرزق والخصب وقيل المطهر ﴿طوى﴾ هو اسم الوادي عن ابن عباس ومجاهد والجبائي وقيل سمي به لأن الوادي قدس مرتين فكأنه طوي بالبركة مرتين عن الحسن ﴿وأنا اخترتك﴾ أي اصطفيتك بالرسالة ﴿فاستمع لما يوحى﴾ إليك من كلامي وأصغ إليه وتثبت، لما بشره الله سبحانه بالنبوة أمره باستماع الوحي ثم ابتدأ بالتوحيد فقال ﴿إنني أنا الله لا إله إلا أنا﴾ أي لا إله يستحق العبادة غيري ﴿فاعبدني﴾ خالصا ولا تشرك في عبادتي أحدا، أمره سبحانه بأن يبلغ ذلك قومه ﴿وأقم الصلاة لذكري﴾ أي لأن تذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم لأن الصلاة لا تكون إلا بذكر الله عن الحسن ومجاهد وقيل معناه لأن أذكرك بالمدح والثناء، وقيل إن معناه صل لي ولا تصل لغيري كما يفعله المشركون عن أبي مسلم وقيل معناه أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن عن أكثر المفسرين وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) ويعضده ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك وقرأ ﴿أقم الصلاة لذكري﴾ رواه مسلم في الصحيح ثم أخبره سبحانه بمجيء الساعة فقال ﴿إن الساعة آتية﴾ يعني أن القيامة جائية قائمة لا محالة ﴿أكاد أخفيها﴾ أي أريد أن أخفيها عن عبادي لئلا تأتيهم إلا بغتة قال تغلب هذا أجود الأقوال وهو قول الأخفش وفائدة الإخفاء التهويل والتخويف فإن الناس إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت وروي ابن عباس أكاد أخفيها من نفسي وهي كذلك في قراءة أبي وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) والمعنى أكاد لا أظهر عليها أحدا وهو قول الحسن وقتادة والمقصود من ذلك تبعيد الوصول إلى علمها وتقديره إذا كدت أخفيها من نفسي فكيف أظهرها لك قال المبرد هذا على عادة العرب إذا بالغوا في كتمان الشيء قال كتمته حتى من نفسي أي لم أطلع عليه أحدا فبالغ سبحانه في إخفاء الساعة وذكره بأبلغ ما تعرفه العرب وقال أبو عبيدة معنى أخفيها أظهرها ودخلت أكاد تأكيدا والمعنى يوشك أن أقيمها ﴿لتجزى كل نفس بما تسعى﴾ أي بما تعمل من خير وشر ولينتصف من الظالم للمظلوم ﴿فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها﴾ أي لا يصرفنك عن الصلاة من لا يؤمن بالساعة وقيل معناه لا يمنعك عن الإيمان بالساعة من لا يؤمن بها وقيل عن العبادة ودعاء الناس إليها وقيل عن هذه الخصال ﴿واتبع هواه﴾ والهوى ميل النفس إلى الشيء ومعناه ومن بنى الأمر على هوى النفس دون الحق وذلك أن الدلالة قد قامت على قيام الساعة ﴿فتردى﴾ أي فتهلك كما هلك أي إن صددت عن الساعة بترك التأهب لها هلكت والخطاب وإن كان لموسى (عليه السلام) فهو في الحقيقة لسائر المكلفين وفي هذه الآيات دلالة على أن الله تعالى كلم موسى وأن كلامه محدث لأنه حل الشجرة وهي حروف منظومة.