الآيات 61-63

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿61﴾ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴿62﴾ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴿63﴾

القراءة:

قرأ عاصم في رواية الأعمش والبرجمي عن أبي بكر قل أذن خير لكم بالضم والتنوين فيهما وهو قراءة الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وغيرهم وقرأ الباقون ﴿أذن خير لكم﴾ بالإضافة وقرأ نافع أذن خير ساكنة الذال في كل القرآن وقرأ حمزة وحده ورحمة للذين آمنوا بالجر والباقون ﴿ورحمة﴾ بالرفع.

الحجة:

قال أبو علي أذن في الآية إذا خففت أو ثقلت فإنه يجوز أن يطلق على الجملة وإن كانت عبارة عن جارحة منها كما قال الخليل في الناب من الإبل إنه سميت به لمكان الناب البازل فسميت الجملة كلها به وقالوا للرئيس هو عين القوم وللربيئة هو عينهم ويجوز فيه شيء آخر وهو أن الاسم يجري عليه كالوصف له لوجود معنى ذلك الاسم فيه كقول جرير:

تبدو فتبدي جمالا زانه خفر

إذا ترارأت السود العناكيب

فأجرى العناكيب وصفا عليهن يريد أنهن من الحقارة والدمامة كالعناكيب وقال آخر:

فلولا الله والمهر المفدي

لأبت وأنت غربال الإهاب

فجعله غربالا لكثرة الخروق فيه من آثار الطعن وكذلك قوله هو أذن أجري على الجملة اسم الجارحة لما أراد به من كثرة استعماله لها في الإصغاء بها ويجوز أن يكون فعلا من أذن يأذن أذنا إذا استمع ومنه قوله تعالى ﴿وأذنت لربها﴾ أي استمعت وقوله ﴿ائذن لي﴾ أي استمع لي وفي الحديث ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن فعلى هذا يكون معناه أنه كثير الاستماع مثل أنف وسجح قال أبو زيد رجل أذن إذا كان يصدق بكل ما يسمع وقوله ﴿أذن خير لكم﴾ بالإضافة وهو الأكثر في القراءة فمعناه أنه أذن خير أي مستمع خير وصلاح لكم ومصغ إليه لا مستمع شر وفساد من قرأ أذن خير لكم قال الزجاج معناه من يستمع منكم فيكون قريبا منكم قابلا للعذر خير لكم قال أبو علي ومن رفع ﴿ورحمة﴾ كان المعنى هو أذن خير لكم ورحمة جعله الرحمة لكثرة هذا المعنى فيه وعلى هذا ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ ويجوز أن يقدر حذف المضاف من المصدر وإما الجر في رحمة فعلى العطف على خير كأنه أذن خير ورحمة فإن قلت فيكون أذن رحمة فإن هذا لا يمتنع لأن الأذن في معنى مستمع في الأقوال الثلاثة التي تقدمت فكأنه مستمع رحمة فجاز هذا كما جاز مستمع خير ألا ترى أن الرحمة من الخير فإن قلت فهلا استغني بشمول الخير للرحمة وغيرها عن تقدير عطف الرحمة عليه فالقول فيه أن ذلك لا يمتنع كما لا يمتنع ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ ثم خص فقال خلق الإنسان وإن كان قوله خلق يعم الإنسان وغيره فكذلك الرحمة إذا كانت من الخير لم يمتنع أن تعطف فتخصص الرحمة بالذكر من ضروب الخير لغلبة من ذلك في وصفه كثرته كما خصص الإنسان بالذكر وإن كان الخلق قد عمه وغيره والبعد بين الجار وما عطف عليه لا يمنع من العطف ألا ترى أن من قرأ وقيله يا رب إنما يحمله علي وعنده علم الساعة وعلم قيله.

اللغة:

الفرق بين الأحق والأصلح أن الأحق قد يكون من غير صفات الفعل كقولك زيد أحق بالمال والأصلح لا يقع هذا الموقع لأنه من صفات الفعل وتقول الله أحق بأن يطاع ولا تقول أصلح والمحادة مجاوزة الحد بالمشاقة وهي والمخالفة والمجانبة والمعاداة نظائر وأصله المنع والمحادة ما يعتري الإنسان من النزق لأنه يمنعه من الواجب والخزي الهوان وما يستحيي منه.

الإعراب:

﴿أذن خير﴾ خبر مبتدأ محذوف ومن لم يضف جعل خيرا صفة لأذن واللام في قوله ﴿يؤمن للمؤمنين﴾ على حد اللام في قوله ردف لكم أو على المعنى لأن معنى يؤمن يصدق فعدي باللام كما عدي مصدقا به في نحو قوله مصدقا لما بين يديه وقيل إنما دخلت اللام للفرق بين إيمان التصديق وإيمان الأمان قوله ﴿فإن له نار جهنم﴾ يحتمل أن يكون العامل في أن أحد أمرين إما أن يكون على تقدير حذف الجار على معنى فلان له نار جهنم أو فبان له نار جهنم وإما أن يكون أعاد أن الأولى على التكرير للتوكيد بسبب طول الكلام عن الزجاج وأقول إن هذا على مذهب أبي الحسن وأبي علي الفارسي يرتفع قوله ﴿إن له نار جهنم﴾ بظرف مضمر محذوف من هذا الموضع لطول الكلام وتقديره فله أن له نار جهنم والمعنى فله وجوب نار جهنم ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير فأمره أو وشأنه أن له نار جهنم ولا يجوز أن يرتفع بفعل مضمر لأن الفعل لا يقع بعد الفاء في جواب الشرط وإنما يدخل الفاء في جواب الشرط إذا كان مبتدأ أو خبرا أو جملة فعلية غير خبرية نحو قوله فقولي إني نذرت هذا مذهب سيبويه قال الزجاج ولو قرىء فإن له بكسر الهمزة على وجه الاستئناف لكان جائزا فيكون كقولك فله نار جهنم غير أنه لم يقرأ به أحد.

النزول:

قيل نزلت في جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد وشاس بن قيس ومخشي بن حمير ورفاعة بن عبد المنذر وغيرهم قالوا ما لا ينبغي فقال رجل منهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغ محمدا ما تقولون فيوقع بنا فقال الجلاس بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإن محمدا أذن سامعة فأنزل الله الآية وقيل نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان رجلا أدلم أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة وكان ينم حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى المنافقين فقيل له لا تفعل فقال إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف له فيصدقنا وهو الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحرث عن محمد بن إسحاق وغيره وقوله ﴿يحلفون بالله لكم ليرضوكم﴾ الآية قيل أنها نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من تبوك أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلفهم ويعتلون ويحلفون فنزلت الآية عن مقاتل والكلبي وقيل في جلاس بن سويد وغيره من المنافقين قالوا لئن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس فقال والله إنما يقول محمد حق وأنتم شر من الحمير ثم أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامرا كذاب فنزلت الآية عن قتادة والسدي.

المعنى:

ثم رجع سبحانه إلى ذكر المنافقين فقال ﴿ومنهم﴾ أي ومن هؤلاء المنافقين ﴿الذين يؤذون النبي﴾ والأذى قد يكون بالفعل وقد يكون بالقول وهو هنا بالقول ﴿ويقولون هو أذن﴾ معناه أنه يستمع إلى ما يقال له ويصغي إليه ويقبله ﴿قل﴾ يا محمد ﴿أذن خير لكم﴾ أي هو أذن خير يستمع إلى ما هو خير لكم وهو الوحي وقيل معناه هو يسمع الخير ويعمل به ومن قرأ أذن خير لكم فمعناه قل كونه أذنا أصلح لكم لأنه يقبل عذركم ويستمع إليكم ولو لم يقبل عذركم لكان شرا لكم فكيف تعيبونه بما هو خير لكم وأصلح ﴿يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين﴾ معناه أنه لا يضره كونه آذنا فإنه أذن خير فلا يقبل إلا الخبر الصادق من الله ويصدق المؤمنين أيضا فيما يخبرونه ويقبل منهم دون المنافقين عن ابن عباس فإيمانه للمؤمنين تصديقه لهم على هذا القول وقيل يؤمن للمؤمنين أي يؤمنهم فيما يلقى إليهم من الأمان ولا يؤمن للمنافقين بل يكونون على خوف وإن حلفوا ﴿ورحمة للذين آمنوا منكم﴾ أي وهو رحمة لهم لأنهم إنما نالوا الإيمان بهدايته ودعائه إياهم ﴿والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم﴾ في الآخرة ﴿يحلفون بالله لكم ليرضوكم﴾ أخبر سبحانه أن هؤلاء المنافقين يقسمون بالله أن الذي بلغكم عنهم باطل اعتذارا إليكم وطلبا لمرضاتكم ﴿والله ورسوله أحق أن يرضوه﴾ أي والله ورسوله أحق وأولى بأن يطلبوا مرضاتهما ﴿إن كانوا مؤمنين﴾ مصدقين بالله مقرين بنبوة نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه فحذف للتخفيف ولدلالة الكلام عليه كما قال الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

والمعنى نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض ثم قال سبحانه على وجه التقريع والتوبيخ لهؤلاء المنافقين ﴿ألم يعلموا﴾ أي وما يعلموا ﴿أنه من يحادد الله ورسوله﴾ أي من تجاوز حدود الله التي أمر المكلفين ألا يتجاوزوها وإنما قال أ لم يعلما لمن لا يعلم على وجه الاستبطاء لهم والتخلف عن عمله أي هلا علموا بعد أن مكنوا من عمله وقيل هو أمر بالعلم أي يجب أن يعلموا بهذا الخبر وبالدلائل وقيل معناه أ لم يخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك عن الجبائي ﴿فإن له نار جهنم خالدا فيها﴾ أي دائما ﴿ذلك الخزي﴾ أي الهوان والذل ﴿العظيم﴾.