الآيات 34-35
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿34﴾ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴿35﴾
اللغة:
الكنز في الأصل هو الشيء الذي جمع بعضه إلى بعض ويقال للشيء المجتمع مكتنز وناقة كناز اللحم مجتمعة قال نفطويه سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى وسميت الفضة فضة لأنها تنفض أي تتفرق فلا تبقى وحسبك بالاسمين دلالة على فنائهما والإحماء جعل الشيء حارا في الإحساس وهو فوق الإسخان وضده التبريد يقال حمى يحمي حمى وأحماه غيره والكي إلصاق الشيء الحار بالعضو من البدن.
الإعراب:
﴿الذين يكنزون﴾ موضعه نصب لأنه معطوف على اسم إن ويكون المعنى وإن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا يأكلونها ويجوز أن يكون رفعا على الاستئناف وذكر في قوله ﴿ولا ينفقونها﴾ وجوه (أحدها) أنه أراد لا ينفقون الكنوز فرجع الضمير إلى ما دل عليه الكلام (والثاني) أنه لما ذكر الذهب والفضة دل على الأموال فكأنه قال ولا ينفقون الأموال (والثالث) أن الذهب مؤنث وهو جمع واحدة ذهبة وهذا الجمع الذي ليس بينه وبين واحدة إلا الهاء يذكر ويؤنث ثم لما اجتمعا في التأنيث وكان كل واحد منهما يؤخذ عن صاحبه في الزكاة على قول جمهور العلماء جعلهما كالشيء الواحد ورد الضمير إليهما بلفظ التأنيث (والرابع) أنه اكتفى بأحدهما عن الآخر للإيجاز ورد الضمير إلى الفضة لأنها أقرب إليه كما قال حسان:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود
ما لم يعاص كان جنونا
وقد مر ذكر أمثاله فيما مضى.
المعنى:
ثم بين سبحانه حال الأحبار والرهبان فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل﴾ أي يأخذون الرشى على الحكم عن الحسن والجبائي وأكل المال بالباطل تملكه من الجهات التي يحرم منها أخذه إلا أنه لما كان معظم التصرف والتملك للأكل وضع الأكل موضع ذلك وقيل إن معناه يأكلون متاع أموال الناس من الطعام فكأنهم يأكلون الأموال لأنها ثمن المأكول كما قال الشاعر:
ذر الآكلين الماء لوما فما أرى
ينالون خيرا بعد أكلهم الماء
أي ثمن الماء ﴿ويصدون عن سبيل الله﴾ أي يمنعون غيرهم عن اتباع الإسلام الذي هو سبيل الله التي دعاهم إلى سلوكها وعن اتباع محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله﴾ أي يجمعون المال ولا يؤدون زكاته فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال كل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا وكل مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض وبه قال ابن عباس والحسن والشعبي والسدي قال الجبائي وهو إجماع وروي عن علي (عليه السلام) ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدي زكاته أو لم يؤد وما دونها فهو نفقة وتقدير الآية والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه في سبيل الله ويكنزون الفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فحذف المعطوف من الأول لدلالة الثاني عليه كما حذف المفعول في الثاني لدلالة الأول عليه في قوله ﴿والذاكرين الله كثيرا والذاكرات﴾ وتقديره والذاكرات الله وأكثر المفسرين على أن قوله ﴿والذين يكنزون﴾ على الاستئناف وأن المراد بذلك مانعوا الزكاة من هذه الأمة وقيل إنه معطوف على ما قبله والأولى أن يكون محمولا على العموم في الفريقين ﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ أي أخبرهم بعذاب موجع وروى سالم بن أبي الجعد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما نزلت هذه الآية قال تبا للذهب تبا للفضة يكررها ثلاثا فشق ذلك على أصحابه فسأله عمر فقال يا رسول الله أي المال نتخذ فقال لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه ﴿يوم يحمى عليها في نار جهنم﴾ أي يوقد على الكنوز أو على الذهب والفضة في نار جهنم حتى تصير نارا ﴿فتكوى بها﴾ أي بتلك الكنوز المحماة والأموال التي منعوا حق الله فيها بأعيانها ﴿جباههم وجنوبهم وظهورهم﴾ وإنما خص هذه الأعضاء لأنها معظم البدن وكان أبو ذر الغفاري يقول بشر الكانزين بكي في الجباه وكي في الجنوب وكي في الظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم وفي هذا المعنى الذي أشار إليه أبو ذر خصت هذه المواضع بالكي لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل وقيل إنما خصت هذه المواضع بالعذاب لأن الجبهة محل الوسم لظهورها والجنب محل الألم والظهر محل الحدود وقيل لأن الجبهة محل السجود فلم تقم فيه بحقه والجنب يقابل القلب الذي لم يخلص في معتقده والظهر محمل الأوزار قال ﴿يحملون أوزارهم على ظهورهم﴾ عن الماوردي وقيل لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وزوي عينيه وطوى عنه كشحه وولاه ظهره عن أبي بكر الوراق ﴿هذا ما كنزتم لأنفسكم﴾ أي يقال لهم في حال الكي أو بعده هذا جزاء ما كنزتم وجمعتم المال ولم تؤدوا حق الله عنها وجعلتموها ذخيرة لأنفسكم ﴿فذوقوا ما كنتم تكنزون﴾ أي فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكنزون أي تجمعون وتمنعون حق الله منه فحذف لدلالة الكلام عليه وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما من عبد له مال ولا يؤدي زكاته إلا جمع يوم القيامة صفائح يحمى عليها في نار جهنم فتكوى به جبهته وجنباه وظهره حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار أورده مسلم بن الحجاج في الصحيح وروي ثوبان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من ترك كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه ويقول ويلك ما أنت فيقول أنا كنزك الذي تركت بعدك فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقصمها ثم يتبعه سائر جسده وروى الثعلبي بإسناده عن الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو في ظل الكعبة فلما رآني قد أقبلت قال هم الأخسرون ورب الكعبة هم الأخسرون ورب الكعبة قال فدخلني غم وجعلت أتنفس وقلت هذا شيء حدث في قال قلت من هم فداك أبي وأمي قال الأكثرون إلا من قال بالمال في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه وشماله ومن خلفه وقليل ما هم وروي عن أبي ذر أنه قال من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة.