الآيات 41-50
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ﴿42﴾ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ مِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴿43﴾ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ﴿44﴾ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴿45﴾ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴿46﴾ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴿47﴾ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا ﴿48﴾ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ﴿49﴾ وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴿50﴾
القراءة:
قد ذكرنا الاختلاف بين القراء في قوله ﴿يا أبت﴾ والوجه في ذلك في سورة يوسف (عليه السلام).
اللغة:
الصديق هو كثير التصديق بالحق حتى يصير علما فيه والرغبة عن الشيء نقيض الرغبة فيه والترغيب الدعاء إلى الرغبة في الشيء والانتهاء الامتناع من الفعل المنهي عنه يقال نهاه عن الأمر فانتهى وأصله النهاية والنهي زجر عن الخروج من النهاية المذكورة والتناهي بلوغ نهاية الحد والرجم الرمي بالحجارة والرجم الشتم وأصله من الرجم والرجام وهو الحجارة والملي الدهر الطويل قال الفراء: يقال كنت عندنا ملوة وملوة وملوة وملاوة وملاوة وكله من طول المقام والحفي المستقصي في السؤال والخفي اللطيف بعموم النعمة وأصل الباب الاستقصاء تقول تحفيت به أي بالغت في إكرامه وحفوته من كل خير بالغت في منعه وأحفيت شاربي بالغت في أخذه حتى استأصلته وأحفيت في السؤال بالغت وكل شيء استوصل فقد احتفى وتقول العرب جاءني لسان فلان أي مدحه وذمه قال عامر بن الحرث:
إني أتتني لسان لا أسر بها
من علو لا عجب منها ولا سخر
جاءت مرجمة قد كنت أحذرها
لو كان ينفعني الإشفاق والحذر
الإعراب:
قال الزجاج: العرب تقول في النداء يا أبت ويا أمت ولا يقال قال أبتي كذا وقالت أمتي كذا وزعم الخليل وسيبويه أنهما بمنزلة قولهم يا عمة ويا خالة وزعم أنه بمنزلة قولهم رجل ربعة وغلام يفعة وأن الهاء عوض من ياء الإضافة في يا أبي ويا أمي وقوله ﴿مليا﴾ منصوب على الظرف وكلا مفعول جعلنا.
المعنى:
ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم (عليه السلام) فقال ﴿واذكر﴾ يا محمد ﴿في الكتاب﴾ أي القرآن ﴿إبراهيم إنه كان صديقا﴾ أي كثير التصديق في أمور الدين عن الجبائي وقيل صادقا مبالغا في الصدق فيما يخبر عن الله تعالى عن أبي مسلم ﴿نبيا﴾ أي عليا رفيع الشأن برسالة الله تعالى ﴿إذ قال لأبيه﴾ آزر ﴿يا أبت﴾ أي يا أبي ودخلت التاء للمبالغة في تحقيق الإضافة ﴿لم تعبد ما لا يسمع﴾ دعاء من يدعوه ﴿ولا يبصر﴾ من يتقرب إليه ويعبده ﴿ولا يغني عنك شيئا﴾ من أمور الدنيا أي لا يكفيك شيئا فلا ينفعك ولا يضرك ﴿يا أبت إني قد جاءني من العلم﴾ بالله والمعرفة ﴿ما لم يأتك فاتبعني﴾ على ذلك واقتد بي فيه ﴿أهدك صراطا سويا﴾ أي أوضح لك طريقا مستقيما معتدلا غير جائر بك عن الحق إلى الضلال ﴿يا أبت لا تعبد الشيطان﴾ أي لا تطعه فيما يدعوك إليه فتكون بمنزلة من عبده ولا شبهة أن الكافر لا يعبد الشيطان ولكن من أطاع شيئا فقد عبده ﴿إن الشيطان كان للرحمن عصيا﴾ أي عاصيا ﴿يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن﴾ أي يصبك عذاب من جهة الله سبحانه لإصرارك على الكفر ﴿فتكون للشيطان وليا﴾ أي فتكون موكولا إلى الشيطان وهو لا يغني عنك شيئا عن الجبائي وقيل معناه فتكون لا حقا بالشيطان باللعن والخذلان واللاحق يسمى التالي والذي يتلو الشيء والذي يليه سواء عن أبي مسلم وقيل فتكون له قرينا في النار وقيل معناه فيكون الشيطان ولي نصرتك ولم يقل فيكون الشيطان وليك لأنه أبلغ في الفضيحة وإنما أراد زجره عن موالاة الشيطان لا تحقيق النصرة يعني إذا لم يكن لك إلا نصرته فأنت مخذول لا ناصر لك وقد بينا فيما مضى أن الذي يقوله أصحابنا أن هذا الخطاب من إبراهيم (عليه السلام) إنما توجه إلى من سماه الله أبا له لأنه كان جدا لإبراهيم (عليه السلام) لأمه وأن أباه الذي ولده كان اسمه تارخ لإجماع الطائفة على أن آباء نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى آدم (عليه السلام) كلهم مسلمون موحدون ولما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لم يزل ينقلني الله تعالى من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا والكافر غير موصوف بالطهارة لقوله تعالى ﴿إنما المشركون نجس﴾ ﴿قال﴾ آزر مجيبا لإبراهيم (عليه السلام) حين دعاه إلى الإيمان ﴿أراغب أنت عن آلهتي﴾ أي أمعرض أنت عن عبادة آلهتي التي هي الأصنام ﴿يا إبراهيم﴾ وتارك لها وزاهد فيها ﴿لئن لم تنته﴾ أي لئن لم تمتنع عن هذا ﴿لأرجمنك﴾ بالحجارة عن الحسن والجبائي وقيل لأرمينك بالذنب والعيب وأشتمنك عن السدي وابن جريج وقيل معناه لأقتلنك ﴿واهجرني مليا﴾ أي فارقني دهرا طويلا عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وقيل مليا سويا سليما عن عقوبتي عن ابن عباس وقتادة وعطاء والضحاك من قولهم فلان ملي بهذا الأمر إذا كان كاملا فيه مضطلعا به ﴿قال﴾ إبراهيم ﴿سلام عليك﴾ سلام توديع وهجر على ألطف الوجوه وهو سلام متاركة ومباعدة منه عن الجبائي وأبي مسلم وقيل هذا سلام إكرام وبر فقابل جفوة أبيه بالبر تأدية لحق الأبوة أي هجرتك على وجه جميل من غير عقوق ﴿سأستغفر لك ربي﴾ قيل فيه أقوال (أحدها) أنه إنما وعده بالاستغفار على مقتضى العقل ولم يكن بعد قد استقر قبح الاستغفار للمشركين (وثانيها) أنه قال سأستغفر لك ربي على ما يصح ويجوز من تركك عبادة الأوثان وإخلاص العبادة لله تعالى عن الجبائي (وثالثها) أن معناه سادعو الله أن لا يعذبك في الدنيا عن الأصم ﴿إنه كان بي حفيا﴾ أي بارا لطيفا رحيما عن ابن عباس ومقاتل وقيل إن الله عودني إحسانه وكان لي مكرما وقيل كان عالما بي وبما أبتغيه من مجالدتك لعله يهديك ﴿وأعتزلكم وما تدعون من دون الله﴾ أي وأتنحى منكم جانبا واعتزل عبادة ما تدعون من دونه من الأصنام ﴿وأدعوا﴾ أي وأعبد ﴿ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا﴾ كما شقيتم بدعاء الأصنام وإنما ذكر عسى على وجه الخضوع وقيل معناه لعله يقبل طاعتي وعبادتي ولا أشقى بالرد فإن المؤمن بين الرجاء والخوف ﴿فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله﴾ أي فارقهم وهاجرهم إلى الأرض المقدسة ﴿وهبنا له إسحاق﴾ ولدا ﴿ويعقوب﴾ ولد ولد ﴿وكلا جعلنا نبيا﴾ أي آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد كرام على الله وكلا من هذين جعلناه نبيا يقتدى به في الدين ﴿ووهبنا لهم من رحمتنا﴾ أي نعمتنا سوى الأولاد النبوة من نعم الدين والدنيا ﴿وجعلنا لهم لسان صدق عليا﴾ أي ثناء حسنا في الناس عليا مرتفعا سائرا في الناس وكل أهل الأديان يتولون إبراهيم وذريته ويثنون عليهم ويدعون أنهم على دينهم وقيل معناه وأعلينا ذكرهم بأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمته يذكرونهم بالجميل إلى قيام القيامة وقيل هو ما يتلى في التشهد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم.