الآيات 12-19

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ﴿12﴾ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴿13﴾ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا قَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿14﴾ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴿15﴾ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴿16﴾ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴿17﴾ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴿18﴾ فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿19﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وأبو بكر عظما فكسونا العظم على الإفراد وقرأ زيد عن يعقوب عظما فكسونا العظام والباقون على الجمع في الموضعين.

الحجة:

قال أبو علي الجمع أشبه بما جاء في التنزيل إذا كنا عظاما ورفاتا إذا كنا عظاما نخرة من يحيي العظام والإفراد لأنه اسم جنس فأفرد كما يفرد المصادر وغيرها من الأجناس نحو الدرهم والإنسان وليس ذلك على حد قوله:

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

فإن زمانكم زمن خميص

ولكنه على ما أنشده أبو زيد:

لقد تعللت على أيانق

صهب قليلات القراد اللازق

فالقراد يراد به الكثرة لا محالة.

اللغة:

السلالة اسم لما يسل من الشيء كالكساحة اسم لما يكسح وتسمى النطفة سلالة والولد سلالة وسليلة والجمع سلالات وسلائل فالسلالة صفوة الشيء التي يخرج منها كالسلافة قال الشاعر:

وهل كنت إلا مهرة عربية

سليلة أفراس تجللها بغل

والنطفة الماء القليل وقد يقال للماء الكثير أيضا ومنه قول أمير المؤمنين عليه أفضل الصلوات مصارعهم دون النطفة يريد النهروان يعني الخوارج ومنه الحديث حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا يعني بحر المشرق وبحر المغرب.

الإعراب:

﴿في قرار﴾ في موضع الصفة لنطفة و﴿علقة﴾ حال من النطفة بعد الفراغ من الفعل وكذلك القول في مضغة وعظام و﴿لحما﴾ مفعول ثان لكسونا و﴿خلقا﴾ مصدر أنشأنا من غير لفظه ﴿من نخيل وأعناب﴾ صفة لجنات وكذلك قوله ﴿لكم فيها فواكه كثيرة﴾.

المعنى:

ثم قال سبحانه على وجه القسم ﴿و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين﴾ المراد بالإنسان ولد آدم (عليه السلام) وهو اسم الجنس فيقع على الجميع عن ابن عباس ومجاهد وأراد بالسلالة الماء يسل من الظهر سلا من طين أي من طين آدم لأنها تولدت من طين خلق آدم منه قال الكلبي يقول من نطفة سلت تلك النطفة من طين وقيل أراد بالإنسان آدم (عليه السلام) لأنه استل من أديم الأرض عن قتادة ﴿ثم جعلناه﴾ يعني ابن آدم الذي هو الإنسان ﴿نطفة في قرار مكين﴾ يعني الرحم مكن فيه الماء بأن هيأ لاستقراره فيه إلى بلوغ أمده الذي جعل له ﴿ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة﴾ مفسر في سورة الحج ﴿فخلقنا المضغة عظاما﴾ أي جعلنا تلك المضغة من اللحم عظاما ﴿فكسونا العظام لحما﴾ أي فأنبتنا اللحم على العظام كاللباس.

بين سبحانه تنقل أحوال الإنسان في الرحم حتى استكمل خلقه لينبه على بدائع حكمته وعجائب صنعته وكمال نعمته ﴿ثم أنشأناه خلقا آخر﴾ أي نفخنا فيه الروح عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والشعبي والضحاك وقيل هو نبات الشعر والأسنان وإعطاء الفهم عن قتادة وقيل يعني ثم أنشأناه ذكرا وأنثى عن الحسن ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ أي تعالى الله ودام خبره وثبت وقيل معناه استحق التعظيم بأنه قديم لم يزل ولا يزال لأنه مأخوذ من البروك الذي هو الثبوت وقال ﴿أحسن الخالقين﴾ لأنه لا تفاوت في خلقه وأصل الخلق التقدير يقال خلقت الأديم إذا قسته لتقطع منه شيئا وقال حذيفة في هذه الآية تصنعون ويصنع الله وهو خير الصانعين وفي هذا دليل على أن اسم الخلق قد يطلق على فعل غير الله تعالى إلا أن الحقيقة في الخلق لله سبحانه فقط فإن المراد من الخلق إيجاد الشيء مقدرا تقديرا لا تفاوت فيه وهذا إنما يكون من الله سبحانه وتعالى ودليله قوله إلا له الخلق والأمر وروي أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما بلغ إلى قوله ﴿خلقا آخر﴾ خطر بباله ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ فلما أملاها رسول الله كذلك قال عبد الله إن كان نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فلحق بمكة مرتدا ولو صح هذا فإن هذا القدر لا يكون معجزا ولا يمتنع أن يتفق ذلك من الواحد منا لكن هذا الشقي إنما اشتبه عليه أو شبه على نفسه لما كان في صدره من الكفر والحسد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿ثم إنكم بعد ذلك﴾ أي بعد ما ذكرنا من تمام الخلق ﴿لميتون﴾ عند انقضاء آجالكم ﴿ثم إنكم يوم القيامة تبعثون﴾ أي تحشرون إلى الموقف والحساب والجزاء أخبر الله سبحانه أن هذه البنية العجيبة المبنية على أحسن إتقان وإحكام تنقض بالموت لغرض صحيح وهو البعث والإعادة وهذا لا يمنع من الإحياء في القبور لأن إثبات البعث في القيامة لا يدل على نفي ما عداه أ لا ترى أن الله سبحانه أحيا الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف وأحيا قوم موسى على الجبل بعد ما أماتهم وفي الآية دلالة على فساد قول النظام في أن الإنسان هو الروح وقول معمر إن الإنسان شيء لا ينقسم وأنه ليس بجسم ﴿ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق﴾ أي سبع سماوات كل سماء طريقة وسميت بذلك لتطارقها وهو أن بعضها فوق بعض وقيل لأنها طرائق الملائكة عن الجبائي وقيل الطرائق الطباق وكل طبقة طريقة عن ابن زيد وقيل إن ما بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام وكذلك ما بين السماء والأرض عن الحسن ﴿وما كنا عن الخلق غافلين﴾ إذ بنينا فوقهم سبع سماوات أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب وقيل معناه ما خلقناهم عبثا بل خلقناهم عالمين بأعمالهم وأحوالهم عن الجبائي وفي هذا دلالة على أنه عالم بجميع المعلومات وفيه زجر عن السيئات وترغيب في الطاعات ﴿وأنزلنا من السماء ماء﴾ أي مطرا وغيثا ﴿بقدر﴾ أي بقدر الحاجة لا يزيد على ذلك فيفسد ولا ينقص عنه فيهلك بل على ما توجبه المصلحة ﴿فأسكناه في الأرض﴾ أي جعلنا له الأرض مسكنا جمعناه فيه لينتفع به يريد ما يبقى في المستنقعات والدحلان أقر الله الماء فيها لينتفع الناس بها في الصيف عند انقطاع المطر وقيل معناه جعلنا عيونا في الأرض وروى مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال إن الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله من عين واحدة وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله ﴿وأنزلنا من السماء ماء بقدر﴾ الآية ﴿وإنا على ذهاب به لقادرون﴾ أي ونحن على إذهابه قادرون ولو فعلناه لهلك جميع الحيوانات نبه سبحانه بذلك على عظيم نعمته على خلقه بإنزال الماء من السماء ﴿فأنشأنا لكم﴾ أي أحدثنا وخلقنا لنفعكم ﴿به﴾ أي بسبب هذا الماء ﴿جنات من نخيل وأعناب لكم﴾ يا معاشر الخلق ﴿فيها فواكه كثيرة﴾ تتفكهون بها ﴿ومنها تأكلون﴾ وإنما خص النخل والأعناب لأنها ثمار الحجاز من المدينة والطائف فذكرهم سبحانه بالنعم التي عرفوها.

النظم:

وجه اتصال الآيات بما قبلها أنه سبحانه لما ذكر نعمته على المؤمنين بما أعد لهم في الآخرة ابتدأ بذكر نعمة عليهم في مبتدإ خلقه تنبيها لهم على النظر فيها وترغيبا في التمسك بالحسنات المذكورة ولما بين أحوال الآخرة بين متى يكون البعث ودل بذلك على أن من قدر على خلق الإنسان في هذا الترتيب والتركيب العجيب قدر على الإعادة ثم أبان عن قدرته على البعث بقدرته على خلق السماوات ثم بين أنه لا يغفل عن عباده إذ لا يشغله فعل عن فعل ثم بين أنه قادر لذاته حيث أنزل من السماء الماء وأسكنه في الأرض بأن فرقه في البحار والأنهار والعيون ثم بين سبحانه أنه قادر على إذهابه دلالة على أن هذه النعمة وقعت باختياره ثم ذكر تفصيل النعمة.