الآيـة 264

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿264﴾

اللغة:

الرئاء والمرآة أصله من الرؤية كأنه يفعل ليري غيره ذلك وجمع في ﴿رئاء الناس﴾ بين همزتين ولا يجمع في ذوائب وإن حال بينهما الألف في كلا الموضعين لخفة الواحد ولأنهما مفتوحتان في الواحد فهو أخف لها والصفوان واحدته صفوانة مثل سعدان وسعدانة ومرجان ومرجانة وهي الحجر الأملس والصفا بمعنى الصفوان وذكر الكسائي في جمع صفوان صفي وأنكر ذلك المبرد وقال إنما هو جمع صفا مثل عصي وعصا وقفي وقفا والتراب والترب واحد وترب الرجل إذا لصق بالتراب من الفقر ومنه قوله ﴿مسكينا ذا متربة﴾ لأنه قعد على التراب للفقر وأترب الرجل إذا صار ماله بعدد التراب والترب اللدة وقيل فيه أقوال منها أن الأتراب خرجوا إلى التراب في وقت من الزمان ومنها أنهم صبيان يلعبون في التراب ومنها أنهم في الاشتباه كالتراب.

والترائب عظام الصدر لأنها متشابهة والوابل المطر الشديد الوقع وبلت السماء تبل وبلا والوبيل الشديد والوبال سوء العاقبة وأصل الباب الشدة والصلد الحجر الأملس قال الشاعر:

ولست بجلب جلب ريح وقرة

ولا بصفا صلد عن الخير معزل

والصلد من الأرض ما لا ينبت شيئا لصلابته والصلد البخيل وصلد الزند صلودا إذا لم يور نارا وفرس صلود إذا أبطأ عرقه وقدر صلود إذا أبطأ عليها وأصل الباب ملاسة في صلابة.

الإعراب:

الكاف في قوله ﴿كالذي ينفق ماله﴾ في موضع نصب على الحال من الواو في تبطلوا.

﴿رئاء الناس﴾ مصدر وضع موضع الحال من الضمير في ينفق تقديره ينفق ماله مرائيا ويجوز أن يكون مفعولا له.

﴿عليه تراب﴾ جملة في موضع جر بكونه صفة صفوان وصلدا حال من تركه وذو الحال الهاء و﴿لا يقدرون﴾ جملة فعلية في موضع الحال والواو عائد إلى معنى الذي لأنه جنس لا إلى لفظه.

المعنى:

ثم أكد تعالى ما قدمه بما ضرب من الأمثال فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي صدقوا الله ورسوله ﴿لا تبطلوا صدقاتكم بالمن﴾ أي بالمنة على السائل وقيل بالمنة على الله ﴿والأذى﴾ بمعنى أذى صاحبها ثم ضرب تعالى مثلا لعمل المنان وعمل المنافق جميعا فإنهم إذا فعلا الفعل على غير الوجه المأمور به فإنهما لا يستحقان عليه ثوابا وهذا هو معنى الإبطال وهو إيقاع العمل على غير الوجه الذي يستحق عليه الثواب فقال ﴿كالذي ينفق ماله رئاء الناس﴾ هذا يدخل فيه المؤمن والكافر إذا أخرجا المال للرئاء ﴿ولا يؤمن بالله واليوم الآخر﴾ هذا للكافر خاصة أي لا يصدق بوحدانية الله ولا بالبعث والجزاء وقيل أنه صفة للمنافق لأن الكافر معلن غير مراء وكل مراء كافر أو منافق ﴿فمثله كمثل صفوان﴾ أي حجر أملس ﴿عليه تراب فأصابه وابل﴾ أي مطر عظيم القطر شديد الوقع ﴿فتركه صلدا﴾ حجرا صلبا أملس شبه سبحانه فعل المنافق والمنان بالصفا الذي أزال المطر ما عليه من التراب فإنه لا يقدر أحد على رد ذلك التراب عليه كذلك إذا دفع المنان صدقة وقرن بها المن فقد أوقعها على وجه لا طريق له إلى استدراكه وتلافيه لوقوعها على الوجه الذي لا يستحق عليه الثواب فإن وجوه الأفعال تابعة لحدوث الأفعال فإذا فاتت فلا طريق إلى تلافيها وليس في الآية ما يدل على أن الثواب الثابت المستقر يبطل ويزول بالمن فيما بعد ولا بالرياء الذي يحصل فيما يستقبل من الأوقات على ما قاله أهل الوعيد ﴿لا يقدرون على شيء مما كسبوا﴾ أي لا يقدر هؤلاء على نفقتهم ولا على ثوابها ولا يعلمون أين النفقة وأين ثوابها ولا يحصلون منها على شيء كما لا يحصل أحد على التراب أذهبه المطر عن الحجر فقد تضمنت الآية والآي التي قبلها الحث على الصدقة وإنفاق المال في سبيل الخير وأبواب البر ابتغاء مرضاة الله والنهي عن المن والأذى والرياء والسمعة والنفاق والخبر عن بطلان العمل بها ومما جاء في معناه من الحديث ما رواه ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إذا كان يوم القيامة نادى مناد يسمع أهل الجمع أين الذين كانوا يعبدون الناس قوموا خذوا أجوركم ممن عملتم له فإني لا أقبل عملا خالطه شيء من الدنيا وأهلها وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم آذاه بالكلام أو من عليه فقد أبطل الله صدقته ثم ضرب فيه مثلا فقال ﴿كالذي ينفق ماله رئاء الناس﴾ إلى قوله ﴿الكافرين﴾ وقال أبو عبد الله (عليه السلام) ما من شيء أحب إلى من رجل سلفت مني إليه يد أتبعته أختها وأحسنت ربها له لأني رأيت منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل ﴿والله لا يهدي القوم الكافرين﴾ أي لا يثيب الكافرين على أعمالهم إذ كان الكفر محبطا لها ومانعا من استحقاق الثواب عليها وإنما يثيب المؤمنين الذين يوقعون أعمالهم على الوجوه التي يستحق بها الثواب وقيل معناه لا يهديهم إلى الجنة بأعمالهم كما يهدي المؤمنين وقيل معناه لا يعطيهم ما يعطي المؤمنين من زيادة الألطاف والتوفيق.