الآيات 116-118

وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴿116﴾ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿117﴾ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿118﴾

اللغة:

النفس تقع على وجوه فالنفس نفس الإنسان وغيره من الحيوان وهي التي إذا فارقها خرج من كونه حيا ومنه قوله ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾ والنفس أيضا ذات الشيء الذي يخبر عنه كقولهم فعل ذلك فلان نفسه والنفس أيضا الإرادة كما في قول الشاعر:

فنفساي نفس قالت ائت ابن بجدل

تجد فرجا من كل غمي تهابها

ونفس تقول اجهد بخائك لا تكن

كخاضبة لم يغن شيئا خضابها

وقال النمر بن تولب:

أما خليلي فإني لست معجله

حتى يؤامر نفسية كما زعما

نفس له من نفوس القوم صالحة

تعطي الجزيل ونفس ترضع الغنما يريد أنه بين نفسين نفس تأمره بالجود وأخرى تأمره بالبخل وكنى برضاع الغنم عن البخل كما يقال لئيم راضع والنفس العين التي تصيب الإنسان وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يرقي فيقول بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء هو فيك من كل عين عاين ونفس نافس وحسد حاسد قال ابن الأعرابي النفوس الذي تصيب الناس بالنفس وذكر رجلا فقال كان حسودا نفوسا كذوبا وقال ابن قيس الرقيات:

يتقي أهلها النفوس عليها

فعلى نحرها الرقى والتميم

وقال مضرس:

وإذا نموا صعدا فليس عليهم

منا الخيال ولا نفوس الحسد

والنفس الغيب يقال إني لأعلم نفس فلان أي غيبه وعلى هذا تأويل الآية ويقال النفس أيضا العقوبة وعليه حمل بعضهم قوله تعالى ﴿ويحذركم الله نفسه﴾ والرقيب أصله من الترقب وهو الانتظار ومعناه الحافظ ورقيب القوم حارسهم والشهيد الشاهد لما يكون ويجوز أن يكون بمعنى العليم.

الإعراب:

حقيقة إذ أن يكون لما مضى وهذا معطوف على ما قبله فكأنه قال يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم وذلك إذ يقول يا عيسى وقيل أنه تعالى إنما قال له ذلك حين رفعه إليه فيكون القول ماضيا عن البلخي وهذا قول السدي والصحيح الأول لأن الله عقب هذه الآية بقوله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم وأراد به يوم القيامة وإنما خرج هذا مخرج الماضي وهو للمستقبل تحقيقا لوقوعه كقوله تعالى ﴿ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار﴾ ومثله قوله ﴿ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت﴾ يريد إذ يفزعون وكذلك قوله ﴿ولو ترى إذ وقفوا على النار﴾ وقال أبو النجم:

ثم جزاه الله عني إذ جزى

جنات عدن في العلالي العلا

﴿من دون الله﴾ من زائدة مؤكدة للمعنى قوله ﴿إن كنت قلته﴾ المعنى إن أكن الآن قلته فيما مضى وليس كان فيه على المعنى لأن الشرط والجزاء لا يقعان إلا فيما يستقبل وحرف الجزاء يغير معنى المضي إلى الاستقبال لا محالة هذا قول المحققين وقوله ﴿أن اعبدوا الله﴾ ذكر في محله وجوه (أحدها) النصب بدلا مما أمرتني به (والثاني) أن يكون مجرور الموضع بدلا من الهاء في ﴿به﴾ (والثالث) أن يكون أن مفسرة لما أمر به بمعنى أي وعلى هذا فلا موضع لها من الإعراب.

المعنى:

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من أمر المسيح فقال ﴿وإذ قال الله﴾ والمعنى إذ يقول الله يوم القيامة لعيسى ﴿يا عيسى بن مريم أ أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله﴾ هذا وإن خرج مخرج الاستفهام فهو تقريع وتهديد لمن ادعى ذلك عليه من النصارى كما جرى في العرف بين الناس أن من ادعى على غيره قولا فيقال لذلك الغير بين يدي المدعي عليه ذلك القول أأنت قلت هذا القول ليقول لا فيكون ذلك استعظاما لذلك القول وتكذيبا لقائله وذكر فيه وجه آخر وهو أن يكون تعالى أراد بهذا القول تعريف عيسى أن قوما قد اعتقدوا فيه وفي أمه أنهما إلهان لأنه يمكن أن يكون عيسى لم يعرف ذلك إلا في تلك الحال عن البلخي والأول أصح وقد اعترض على قوله ﴿إلهين﴾ فقيل لا يعلم في النصارى من اتخذ مريم إلها والجواب عنه من وجوه (أحدها) أنهم لما جعلوا المسيح إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا إلها لأن الولد يكون من جنس الوالدة فهذا على طريق الإلزام لهم (والثاني) أنهم لما عظموهما تعظيم الآلهة أطلق اسم الآلهة عليهما كما أطلق اسم الرب على الرهبان والأحبار في قوله ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله﴾ لما عظموهم تعظيم الرب (والثالث) أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك ويعضد هذا القول ما حكاه الشيخ أبو جعفر عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم المريمية يعتقدون في مريم أنها إله فعلى هذا يكون القول فيه كالقول في الحكاية عن اليهود وقولهم عزير ابن الله ﴿قال﴾ يعني عيسى ﴿سبحانك﴾ جل جلالك وعظمت وتعاليت عن عطاء وقيل معناه تنزيها لك وبراءة مما لا يجوز عليك وقيل تنزيها لك من أن تبعث رسولا يدعي إلهية لنفسه ويكفر بنعمتك فجمع بين التوحيد والعدل ثم تبرأ من قول النصارى فقال ﴿ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق﴾ أي لا يجوز لي أن أقول لنفسي ما لا يحق لي فأمر الناس بعبادتي وأنا عبد مثلهم وإنما تحق العبادة لك لقدرتك على أصول النعم ثم استشهد الله تعالى على براءته من ذلك القول فقال ﴿إن كنت قلته فقد علمته﴾ يريد أني لم أقله لأني لو كنت قلته لما خفي عليك لأنك علام الغيوب ﴿تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك﴾ أي تعلم غيبي وسري ولا أعلم غيبك وسرك عن ابن عباس وإنما ذكر النفس لمزاوجة الكلام والعادة جارية بأن الإنسان يسر في نفسه فصار قوله ﴿ما في نفسي﴾ عبارة عن الإخفاء ثم قال ﴿ما في نفسك﴾ على جهة المقابلة وإلا فالله منزه عن أن يكون له نفس أو قلب تحل فيه المعاني ويقوي هذا التأويل قوله تعالى ﴿إنك أنت علام الغيوب﴾ لأنه علل علمه بما في نفس عيسى بأنه علام الغيوب وعيسى ليس كذلك فلذلك لم يعلم ما يختص الله بعلمه ثم قال حكاية عن عيسى في جواب ما قرره تعالى عليه ﴿ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم﴾ أي لم أقل للناس إلا ما أمرتني به من الإقرار لك بالعبودية وإنك ربي وربهم وإلهي وإلههم وأمرتهم أن يعبدوك وحدك ولا يشركوا معك غيرك في العبادة ﴿وكنت عليهم شهيدا﴾ أي شاهدا ﴿ما دمت﴾ حيا ﴿فيهم﴾ بما شاهدته منهم وعلمته وبما أبلغتهم من رسالتك التي حملتنيها وأمرتني بأدائها إليهم ﴿فلما توفيتني﴾ أي قبضتني إليك وأمتني عن الجبائي وقيل معناه وفاة الرفع إلى السماء عن الحسن ﴿كنت أنت الرقيب﴾ أي الحفيظ ﴿عليهم﴾ عن السدي وقتادة ﴿وأنت على كل شيء شهيد﴾ أي أنت عالم بجميع الأشياء لا تخفى عليك خافية ولا يغيب عنك شيء قال الجبائي وفي هذه الآية دلالة على أنه أمات عيسى وتوفاه ثم رفعه إليه لأنه بين أنه كان شهيدا عليهم ما دام فيهم فلما توفاه الله كان هو الشهيد عليهم وهذا ضعيف لأن التوفي لا يستفاد من إطلاقه الموت أ لا ترى إلى قوله ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها﴾ فبين أنه تعالى يتوفى الأنفس التي لم تمت ﴿إن تعذبهم فإنهم عبادك﴾ لا يقدرون على دفع شيء من أنفسهم ﴿وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم﴾ في تسليم الأمر لمالكه وتفويض إلى مدبره وتبرؤ من أن يكون إليه شيء من أمور قومه كما يقول الواحد منا إذا تبرأ من تدبير أمر من الأمور ويريد تفويضه إلى غيره هذا الأمر لا مدخل لي فيه فإن شئت فافعله وإن شئت فاتركه مع علمه وقطعه على أن أحد الأمرين لا يكون منه وقيل أن المعنى إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم عن الحسن فكأنه اشترط التوبة وإن لم يكن الشرط ظاهرا في الكلام وإنما لم يقل فإنك أنت الغفور الرحيم لأن الكلام لم يخرج مخرج السؤال ولو قال ذلك لأوهم الدعاء لهم بالمغفرة على أن قوله ﴿العزيز الحكيم﴾ أبلغ في المعنى وذلك أن المغفرة قد تكون حكمة وقد لا تكون والوصف بالعزيز الحكيم يشتمل على معنى الغفران والرحمة إذا كانا صوابين ويزيد عليهما باستيفاء معان كثيرة لأن العزيز هو المنيع القادر الذي لا يضام والقاهر الذي لا يرام وهذا المعنى لا يفهم من الغفور الرحيم والحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ولا يفعل إلا الحسن الجميل فالمغفرة والرحمة إن اقتضتهما الحكمة دخلتا فيه وزاد معنى هذا اللفظ عليهما من حيث اقتضى وصفه بالحكمة في سائر أفعاله.