الآيات 82-84

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴿82﴾ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿83﴾ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ﴿84﴾

اللغة:

قال الزجاج القسيس والقس من رؤساء النصارى فأما القس في اللغة فهو النميمة ونشر الحديث يقال قس فلان الحديث قسا قال الفراء ويجمع القسيس قساوسة جمعوه على مهالبة فكانت قساسة فكسرت السينان فأبدلوا إحداهن واوا والقسوسة مصدر القس والقسيس وقد تكلمت العرب بهما وأنشد المازني:

لو عرضت لأيبلي قس

أشعث في هيكله مندس

حن إليها كحنين الطس وقال أمية:

لو كان منقلب كانت قساوسة

يحييهم الله في أيديهم الزبر والرهبان جمع راهب مثل راكب وركبان وفارس وفرسان والرهبانية مصدره والترهب التعبد في صومعة وأصله من الرهبة المخافة وقال جرير:

رهبان مدين لو رأوك تنزلوا

والعصم من شعف الجبال الفادر وقال بعضهم الرهبان يكون واحدا وجمعا فمن جعله واحدا جعله بناء على فعلان وأنشد:

لو عاينت رهبان دير في القلل

لانحدر الرهبان يمشي ونزل

وفيض العين من الدمع امتلاءها منه كفيض النهر من الماء وفيض الإناء وهو سيلانه من شدة امتلائه وفاض صدر فلان بسره وأفاض القوم من عرفات إلى منى إذا دفعوا وأفاضوا في الحديث إذا تدافعوا فيه والدمع الماء الجاري من العين ويشبه به الصافي فيقال كأنه دمعة والمدامع مجاري الدمع وشجة دامعة تسيل دما والطمع تعلق النفس بما يقوى أن يكون من معنى المحبوب ونظيره الأمل والرجاء والطمع أن يكون معه الخوف أن لا يكون والصالح هو الذي يعمل الصلاح في نفسه فإن كان عمله في غيره فهو مصلح فلذلك يوصف الله تعالى بأنه مصلح ولم يوصف بأنه صالح.

الإعراب:

اللام في ﴿لتجدن﴾ لام القسم والنون دخلت ليفصل بين الحال والاستقبال هذا مذهب الخليل وسيبويه و﴿عداوة﴾ منصوب على التمييز و﴿يقولون ربنا﴾ في موضع نصب على الحال وتقديره قائلين ربنا ولا نؤمن في موضع نصب على الحال تقديره أي شيء لنا تاركين الإيمان أي في حال تركنا الإيمان و﴿من الحق﴾ معنى من تبيين الإضافة التي تقوم مقام الصفة كأنه قيل والجائي لنا الذي هو الحق وقيل أنها للتبعيض لأنهم آمنوا بالذي جاءهم على التفصيل.

النزول والقصة:

نزلت في النجاشي وأصحابه قال المفسرون ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن من افتتن وعصم الله منهم من شاء ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب فلما رأى رسول الله ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل الله عز وجل للمسلمين فرجا وأراد به النجاشي واسمه أصحمة وهو بالحبشية عطية وإنما النجاشي اسم الملك كقولهم تبع وكسرى وقيصر فخرج إليها سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة وحاطب بن عمرو وسهل بن البيضاء فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله وهذه هي الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه عمارة بن الوليد بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردوهم إليهم وكان عمارة بن الوليد شابا حسن الوجه وأخرج عمرو بن العاص أهله معه فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر فقال عمارة لعمرو بن العاص قل لأهلك تقبلني فأبى فلما انتشى عمرو دفعه عمارة في الماء ونشب عمرو في صدر السفينة وأخرج من الماء وألقى الله بينهما العداوة في مسيرهما قبل أن يقدما إلى النجاشي ثم وردا على النجاشي فقال عمرو بن العاص أيها الملك إن قوما خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وصاروا إليك فردهم إلينا فبعث النجاشي إلى جعفر فجاءه فقال يا أيها الملك سلهم أ نحن عبيد لهم فقال لا بل أحرار قال فسلهم أ لهم علينا ديون يطالبوننا بها قال لا ما لنا عليكم ديون قال فلكم في أعناقنا دماء تطالبونا بها قال عمرو لا قال فما تريدون منا آذيتمونا فخرجنا من دياركم ثم قال أيها الملك بعث الله فينا نبيا أمرنا بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام وأمرنا بالصلاة والزكاة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي فقال النجاشي بعث الله عيسى ثم قال النجاشي لجعفر هل تحفظ مما أنزل الله على نبيك شيئا قال نعم فقرأ سورة مريم فلما بلغ قوله وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا قال هذا والله هو الحق فقال عمرو أنه مخالف لنا فرده إلينا فرفع النجاشي يده وضرب بها وجه عمرو وقال اسكت والله لئن ذكرته بعد بسوء لأفعلن بك وقال أرجعوا إلى هذا هديته وقال لجعفر وأصحابه امكثوا فإنكم سيوم والسيوم الآمنون وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق فانصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله وعلا أمره وهادن قريشا وفتح خيبر فوافى جعفر إلى رسول الله بجميع من كانوا معه فقال رسول الله لا أدري أنا بفتح خيبر أسر أم بقدوم جعفر ووافى جعفر وأصحابه رسول الله في سبعين رجلا منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام فيهم بحيراء الراهب فقرأ عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) سورة يس إلى آخرها فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى فأنزل الله فيهم هذه الآيات وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وقال عطا كانوا ثمانين رجلا أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام.

المعنى:

ثم ذكر تعالى معاداة اليهود للمسلمين فقال ﴿لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا﴾ وصف اليهود والمشركين بأنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين لأن اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين مع أن المؤمنين يؤمنون بنبوة موسى والتوراة التي أتى بها فكان ينبغي أن يكونوا إلى من وافقهم في الإيمان بنبيهم وكتابهم أقرب وإنما فعلوا ذلك حسدا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى﴾ يعني الذين قدمنا ذكرهم من النجاشي ملك الحبشة وأصحابه عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطا والسدي والذين جاءوا مع جعفر مسلمين عن مجاهد ﴿ذلك بأن منهم﴾ أي من النصارى ﴿قسيسين﴾ أي عبادا عن ابن زيد وقيل علماء عن قطرب وقيل إن النصارى ضيعت الإنجيل وأدخلوا فيه ما ليس فيه وبقي من علمائهم واحد على الحق والاستقامة فهو قسيسا فمن كان على هداه ودينه فهو قسيس ﴿ورهبانا﴾ أي أصحاب الصوامع ﴿وأنهم لا يستكبرون﴾ معناه أن هؤلاء النصارى الذين آمنوا لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له كما استكبر اليهود وعباد الأوثان وأنفوا عن قبول الحق أخبر الله تعالى في هذه الآية عن عداوة مجاوري النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من اليهود ومودة النجاشي وأصحابه الذين أسلموا معه من الحبشة لأن الهجرة كانت إلى المدينة وبها اليهود وإلى الحبشة وبها النجاشي وأصحابه ثم وصفهم فقال ﴿وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول﴾ من القرآن ﴿ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق﴾ أي لمعرفتهم بأن المتلو عليهم كلام الله وأنه حق ﴿يقولون ربنا آمنا﴾ أي صدقنا بأنه كلامك أنزلته على نبيك ﴿فاكتبنا﴾ أي فاجعلنا بمنزلة من قد كتب ودون وقيل فاكتبنا في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ ﴿مع الشاهدين﴾ أي مع محمد وأمته الذين يشهدون بالحق عن ابن عباس وقيل مع الذين يشهدون بالإيمان عن الحسن وقيل مع الذين يشهدون بتصديق نبيك وكتابك عن الجبائي ﴿وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق﴾ معناه لأي عذر لا نؤمن بالله وهذا جواب لمن قال لهم من قومهم تعنيفا لهم لم آمنتم عن الزجاج وقيل أنهم قدروا في أنفسهم كان سائلا سألهم عنه فأجابوا بذلك والحق هو القرآن والإسلام ووصفه بالمجيء مجازا كما يقال نزل وإنما نزل به الملك فكذلك جاء به الملك وقيل إن جاء بمعنى حدث نحو قوله جاءت سكرة الموت بالحق ﴿ونطمع﴾ أي نرجو ونأمل ﴿أن يدخلنا ربنا﴾ يعني في الجنة لإيماننا بالحق فحذف لدلالة الكلام عليه ﴿مع القوم الصالحين﴾ المؤمنين من أمة محمد.