الآيات 42-43

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿42﴾ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿43﴾

القراءة:

السحت بضم السين والحاء مكي بصري والكسائي وأبو جعفر وقرأ الباقون ﴿السحت﴾ بإسكان الحاء.

الحجة:

قال أبو علي السحت والسحت لغتان ويستمر التخفيف والتثقيل في هذا النحو وهما اسم الشيء المسحوت كما أوقع الضرب على المضروب في قولهم هذا الدرهم ضرب الأمير والصيد على المصيد في قوله ﴿ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم﴾.

اللغة:

أصل السحت الاستئصال يقال سحته وأسحته أي استأصله ومن أسحت قول الفرزدق:

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع

من المال إلا مسحتا أو مجلف

ويقال للحالق أسحت أي استأصل وفلان مسحوت المعدة إذا كان أكولا لا يشبع وأسحت ماله أفسده وأذهبه والحكم هو فصل الأمر على وجه الحكمة فيما يفصل به وقد يفصل به لبيان أنه الحق وقد يفصل بإلزام الحق والأخذ به كما يفصل الحاكم بين الخصوم بما يقطع الخصومة ويثبت القضية، والتولي الانصراف عن الشيء والتولي عن الحق الترك له وهو خلاف التولي إليه لأنه الإقبال عليه والتولي له هو صرف النصرة والمعونة إليه.

المعنى:

ثم وصفهم تعالى فقال ﴿سماعون للكذب﴾ قد مر تفسيره أعاد الله تعالى ذمهم على استماع الكذب أو قبوله تأكيدا وتشديدا ومبالغة في الزجر عنه ﴿أكالون للسحت﴾ أي يكثرون الأكل للسحت وهو الحرام وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن السحت هو الرشوة في الحكم وهو المروي عن ابن مسعود والحسن وقيل السحت هو الرشوة في الحكم ومهر البغي وكسب الحجام وعسيب الفحل وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستجعال في المعصية عن علي (عليه السلام) وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن السحت أنواع كثيرة فأما الرشى في الحكم فهو الكفر بالله وقيل في اشتقاق السحت أقوال (أحدها) أن الحرام إنما سمي سحتا لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار عن الزجاج (وثانيها) أنه إنما سمي سحتا لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال عن الجبائي (وثالثها) أنه إنما سمي سحتا لأنه القبيح الذي فيه العار نحو ثمن الكلب والخمر فعلى هذا يسحت مروءة الإنسان عن الخليل ﴿فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم﴾ أراد به اليهود الذين تحاكموا إلى النبي في حد الزنا عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقيل أراد بني قريظة وبني النضير لما تحكموا إليه فخيره الله تعالى بين أن يحكم بينهم وبين أن يعرض عنهم عن ابن عباس في رواية أخرى وقتادة وابن زيد والظاهر في روايات أصحابنا أن هذا التخيير ثابت في الشرع للأئمة والحكام وهو قول قتادة وعطاء والشعبي وإبراهيم وقيل أنه منسوخ بقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله عن الحسن ومجاهد وعكرمة ﴿وإن تعرض عنهم﴾ أي عن الحكم بينهم ﴿فلن يضروك شيئا﴾ أي لا يقدرون لك على ضرر في دين أو دنيا فدع النظر بينهم أن شئت ﴿وإن حكمت﴾ أي وإن اخترت أن تحكم ﴿فاحكم بينهم بالقسط﴾ أي العدل وقيل بما في القرآن وشريعة الإسلام ﴿إن الله يحب المقسطين﴾ أي العادلين ﴿وكيف يحكمونك﴾ أي كيف يحكمك يا محمد هؤلاء اليهود فيهم فيرضون بك حكما ﴿وعندهم التوراة﴾ التي أنزلناها على موسى وهي التي يقرون بها أنها كتابي الذي أنزلته وأنه حق وإن ما فيه من حكمي يعلمونه ولا يتناكرونه ﴿فيها حكم الله﴾ أي أحكامه التي لم تنسخ عن أبي علي وقيل عنى به الحكم بالرجم عن الحسن وقيل معناه فيها حكم الله بالقود عن قتادة ﴿ثم يتولون من بعد ذلك﴾ أي يتركون الحكم به جرأة علي وفي هذا تعجيب للنبي وتقريع لليهود الذين نزلت الآية فيهم فكأنه قال كيف تقرون أيها اليهود بحكم نبيي محمد مع إنكاركم نبوته وتكذيبكم إياه وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون بوجوبه وتعترفون بأنه جاءكم من عندي وقوله ﴿من بعد ذلك﴾ إشارة إلى حكم الله في التوراة عن عبد الله بن كثير وقيل ﴿من بعد ذلك﴾ أي من بعد تحكيمك أو حكمك بالرجم لأنهم ليسوا منه على ثقة وإنما طلبوا به الرخصة ﴿وما أولئك بالمؤمنين﴾ أي وما هم بمؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم نبوتك وقيل أن هذا إخبار من الله سبحانه عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبحكمه.