الآيـة 184

أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿184﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر فدية طعام مساكين على إضافة فدية إلى طعام وجمع المساكين وقرأ الباقون ﴿فدية﴾ منونة ﴿طعام﴾ رفع ﴿مسكين﴾ موحد مجرورا وقرأ حمزة والكسائي ومن يطوع خيرا والباقون ﴿تطوع﴾ وقد مضى ذكره وروي في الشواذ يطوقونه عن ابن عباس بخلاف وعائشة وسعيد بن المسيب وعكرمة وعطا يطوقونه على معنى يتطوقونه عن مجاهد وعن ابن عباس وعن عكرمة وروي عن ابن عباس أيضا يتطيقونه ويطيقونه أيضا.

الحجة:

من قرأ ﴿فدية طعام مسكين﴾ فطعام مسكين عطف بيان لفدية وإفراد مسكين جائز وإن كان المعنى على الكثرة لأن المعنى على كل واحد طعام مسكين قال أبو زيد يقال أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة وأعطانا كلنا مائة وأما من أضاف الفدية إلى طعام كإضافة البعض إلى ما هو بعض له فإنه سمى الطعام الذي يفدي به فدية ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية وغيرها وهو على هذا من باب خاتم حديد وأما من قرأ يطوقونه فإنه يفعلونه من الطاقة فهو كقوله يجشمونه ويكلفونه ويجعل لهم كالطوق في أعناقهم ويطوقونه كقولك يتكلفونه ويتجشمونه وأما من قرأ يطيقونه فإنه يتطيقونه يتفعلونه إلا أن العينين أبدلتا ياء كما قالوا في تصور الجرف تهير ويطيقونه يفعلونه منه.

اللغة:

السفر أصله من السفر الذي هو الكشف تقول سفر يسفر سفرا وانسفرت الإبل إذا انكشفت ذاهبة وسفرت الريح السحاب قال العجاج:

سفر الشمال الزبرج المزبرجا

الزبرج السحاب الرقيق وفي السفر يظهر ما لا يظهر إلا به وينكشف من أخلاق الناس ما لا ينكشف إلا به والعدة فعلة من العد وهي بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون والحمل بمعنى المحمول والطوق الطاقة وهي القوة يقال طاق الشيء يطوقه طوقا وطاقة والطاق إطاقة إذا قوي عليه وطوقه تطويقا ألبسه الطوق وهو معروف من ذهب كان أو من فضة لأنه يكسبه قوة بما يعطيه من الجلالة وكل شيء استدار فهو طوق وطوقه الأمير أي جعله كالطوق في عنقه.

الإعراب:

﴿ أياما﴾ قال الزجاج يجوز في انتصابه وجهان (أحدهما) أن يكون ظرفا كأنه كتب عليكم الصيام في أيام والعامل فيه الصيام كان المعنى كتب عليكم أن تصوموا أياما وقال بعض النحويين أنه مفعول ما لم يسم فاعله نحو قولك أعطي زيد المال قال وليس هذا بشيء لأن الأيام هاهنا متعلقة بالصوم وزيد والمال مفعولان لأعطي ذلك أن تقيم أيهما شئت مقام الفاعل وليس في هذا إلا نصب أيام بالصيام قال أبو علي ﴿أياما﴾ يجوز في انتصابه وجهان (أحدهما) أن ينتصب على الظرف والآخر أن ينتصب انتصاب المفعول به على السعة فإذا انتصب على أنه ظرف جاز أن يكون العامل فيه كتب فيكون التقدير كتب عليكم الصيام في أيام وإن شئت اتسعت فنصبته نصب المفعول به فتقول على هذا يا مكتوب أيام عليه أو يا كاتب أيام الصيام وإنما جاز إضافة اسم الفاعل أو المفعول إلى أيام لإخراجك إياه عن أن يكون ظرفا واتساعك في تقديره اسما وإذا كان الأمر على ما ذكرناه كان ما منعه أبو إسحاق من إجازة من أجاز أن كتب عليكم الصيام أياما بمنزلة أعطى زيد المال جائز غير ممتنع قال ولا يستقيم أن ينتصب أياما بالصيام على أن يكون المعنى كتب عليكم الصيام في أيام لأن ذلك وإن كان مستقيما في المعنى فهو في اللفظ ليس كذلك ألا ترى أنك إذا حملته على ذلك فصلت بين الصلة والموصول بأجنبي منهما وذلك أن أياما تصير من صلة الصيام وقد فصلت بينهما بمصدر كتب لأن التقدير كتب عليكم الصيام كتابة مثل كتابته على من كان قبلكم فالكاف في كما متعلقة بكتب وقد فصلت بها بين المصدر وصلته وليس من واحد منهما وأقول أنه يستقيم أن ينتصب أياما بالصيام إذا جعلت الكاف من قوله ﴿كما كتب على الذين من قبلكم﴾ في موضع نصب على الحال أي مفروضا مثل ما فرض عليهم فيكون ما موصولا وكتب صلته وفي كتب ضمير يعود إلى ما والموصول وصلته في موضع جر بإضافة الكاف إليه والكاف موضع النصب بأنه صفة للمحذوف الذي هو الحال من الصيام فعلى هذا لم يفصل بين الصلة والموصول ما هو أجنبي منهما على ما ذكره الشيخ أبو علي وقوله ﴿فعدة من أيام أخر﴾ تقديره فعليه عدة فيكون ارتفاع عدة على الابتداء على قول سيبويه وعلى قول الأخفش يكون مرتفعا بالظرف على ما تقدم بيانه ويجوز أن يكون تقديره فالذي ينوب عن صومه في وقت الصوم عدة من أيام أخر فيكون عدة خبر الابتداء وأخر لا ينصرف لأنه وصف معدول عن الألف واللام لأن نظائرها من الصغر والكبر لا يستعمل إلا بالألف واللام لا يجوز نسوة صغر وإن تصوموا في موضع رفع بالابتداء وخير خبر له ولكم صفة الخبر.

المعنى:

﴿أياما معدودات﴾ أي معلومات محصورات مضبوطات كما يقال أعطيت مالا معدودا أي محصورا متعينا ويجوز أن يريد بقوله ﴿معدودات﴾ أنها قلائل كما قال سبحانه دراهم معدودة يريد أنها قليلة واختلف في هذه الأيام على قولين (أحدهما) أنها غير شهر رمضان وكانت ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ عن معاذ وعطا وعن ابن عباس وروي ثلاثة أيام من كل شهر وصوم عاشوراء عن قتادة ثم قيل أنه كان تطوعا وقيل بل كان واجبا واتفق هؤلاء على أن ذلك منسوخ بصوم شهر رمضان والآخر أن المعني بالمعدودات شهر رمضان عن ابن عباس والحسن واختاره الجبائي وأبو مسلم وعليه أكثر المفسرين قالوا أوجب سبحانه الصوم أولا فأجمله ولم يبين أنها يوم أو يومان أم أكثر ثم بين أنها أيام معلومات وأبهم ثم بينه بقوله ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن﴾ قال القاضي وهذا أولى لأنه إذا أمكن حمله على معنى من غير إثبات نسخ كان أولى ولأن ما قالوه زيادة لا دليل عليه ﴿فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر﴾ عطف قوله ﴿على سفر﴾ وهو ظرف على قوله ﴿مريضا﴾ وهو اسم مع أن الظرف لا يعطف على الاسم لأنه وإن كان ظرفا فهو بمعنى الاسم وتقديره فمن كان منكم مريضا أو مسافرا فالذي ينوب مناب صومه عدة من أيام أخر وفيه دلالة على أن المسافر والمريض يجب عليهما الإفطار لأنه سبحانه أوجب القضاء بنفس السفر والمرض ومن قدر في الآية فأفطر فقد خالف الظاهر وقد ذهب إلى وجوب الإفطار في السفر جماعة من الصحابة كعمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وعروة بن الزبير وهو المروي عن أئمتنا فقد روي أن عمر بن الخطاب أمر رجلا صام في السفر أن يعيد صومه وروى يوسف بن الحكم قال سألت ابن عمر عن الصوم في السفر فقال أرأيت لو تصدقت على رجل صدقة فردها عليك أ لا تغضب فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم وروى عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله الصائم في السفر كالمفطر في الحضر وروي عن ابن عباس أنه قال الإفطار في السفر عزيمة وروى أصحابنا عن أبي عبد الله أنه قال الصائم في شهر رمضان في السفر كالمفطر فيه في الحضر وعنه (عليه السلام) قال لو أن رجلا مات صائما في السفر لما صليت عليه وعنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من سافر أفطر وقصر إلا أن يكون رجلا سفره إلى صيد أو في معصية الله وروى العياشي بإسناده مرفوعا إلى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله قال لم يكن رسول الله يصوم في السفر تطوعا ولا فريضة حتى نزلت هذه الآية بكراع الغميم عند صلاة الهجير فدعا رسول الله بإناء فيه ماء فشرب وأمر الناس أن يفطروا فقال قوم قد توجه النهار ولو تممنا يومنا هذا فسماهم رسول الله العصاة فلم يزالوا يسمون بذلك الاسم حتى قبض رسول الله ﴿وعلى الذين يطيقونه﴾ الهاء يعود إلى الصوم عند أكثر أهل العلم أي يطيقون الصوم خير الله المطيقين الصوم من الناس كلهم بين أن يصوموا ولا يكفروا وبين أن يفطروا ويكفروا عن كل يوم بإطعام مسكين لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ ذلك بقوله ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ وقيل أن الهاء يعود إلى الفداء عن الحسن وأبي مسلم وأما المعني بقوله ﴿الذين يطيقونه﴾ ففيه ثلاثة أقوال (أولها) أنه سائر الناس كما قدمنا ذكره من التخيير والنسخ بعده وهو قول ابن عباس والشعبي (وثانيها) أن هذه الرخصة كانت للحوامل والمراضع والشيخ الفاني ثم نسخ من الآية الحامل والمرضع وبقي الشيخ الكبير عن الحسن وعطاء (وثالثها) أن معناه وعلى الذين كانوا يطيقونه ثم صاروا بحيث لا يطيقونه ولا نسخ فيه عن السدي وقد رواه بعض أصحابنا عن أبي عبد الله أن معناه وعلى الذين كانوا يطيقون الصوم ثم أصابهم كبر أو عطاش وشبه ذلك فعليهم كل يوم مد وروى علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق (عليه السلام) وعلى الذين يطيقونه فدية من مرض في شهر رمضان فأفطر ثم صح فلم يقض ما فاته حتى جاء شهر رمضان آخر فعليه أن يقتضي ويتصدق لكل يوم مدا من طعام وقوله ﴿فدية طعام مسكين﴾ اختلف في مقدار الفدية فقال أهل العراق نصف صاع عن كل يوم وقال الشافعي عن كل يوم مد وعندنا إن كان قادرا فمدان فإن لم يقدر أجزأه مد واحد وقوله ﴿فمن تطوع خيرا فهو خير له﴾ قيل معناه من أطعم أكثر من مسكين واحد عن عطا وطاووس وقيل أطعم المسكين الواحد أكثر من قدر الكفاية حتى يزيده على نصف صاع عن مجاهد ويجمع بين القولين قول ابن عباس من تطوع بزيادة الإطعام وقيل معناه من عمل برا في جمع الدين فهو خير له عن الحسن وقيل من صام مع الفدية عن الزهري وقوله ﴿وإن تصوموا خير لكم﴾ أي وصومكم خير لكم من الإفطار والفدية وكان هذا مع جواز الفدية فأما بعد النسخ فلا يجوز أن يقال الصوم خير من الفدية مع أن الإفطار لا يجوز أصلا وقيل معناه الصوم خير لمطيقة وأفضل ثوابا من التكفير لمن أفطر بالعجز ﴿إن كنتم تعلمون﴾ إن الصوم خير لكم من الفدية وقيل إن كنتم تعلمون أفضل أعمالكم وفي قوله سبحانه ﴿وعلى الذين يطيقونه﴾ دلالة على أن الاستطاعة قبل الفعل.