الآية- 171

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ﴿171﴾

اللغة:

أصل الغلو مجاوزة الحد يقال غلا في الدين يغلو غلوا أو غلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب وتجاوزت لداتها تغلو غلوا وغلاء قال الحرث بن خالد المخزومي:

خمصانة قلق موشحها

رؤد الشباب غلابها عظم

وغلا بسهمه غلوا إذا رمى به أقصى الغاية وتغالى الرجلان تفاعلا من ذلك وأصل المسيح الممسوح سماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب والأدناس التي تكون في الآدميين وقيل أنه سرياني وأصله مشيحا فعربت كما عربت أسماء الأنبياء وقيل أنه ليس مثل ذلك فإن إسحاق ويعقوب وإسماعيل وغيرها أسماء لا صفات والمسيح صفة ولا يجوز أن يخاطب الله خلقه في صفة شيء إلا بما يفهم وأما الدجال فإنه سمي المسيح لأنه ممسوح العين اليمني أو اليسرى وعيسى ممسوح البدن من الأدناس والآثام كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم).

الإعراب:

ثلاثة خبر مبتدإ محذوف دل عليه ظاهر الكلام وتقديره لا تقولوا هم ثلاثة وكذلك كل ما ورد من مرفوع بعد القول لا رافع معه ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم وإنما جاز ذلك لأن القول حكاية والحكاية تكون لكلام تام ﴿انتهوا خيرا لكم﴾ قد ذكرنا وجه النصب في خيرا فيما قبل وأن يكون في موضع نصب أي سبحانه من أن يكون فلما حذف حرف الجر وصل إليه الفعل فنصبه وقيل في موضع جر وقد مر نظائره.

المعنى:

ثم عاد سبحانه إلى حجاج أهل الكتاب فقال ﴿يا أهل الكتاب﴾ قيل أنه خطاب لليهود والنصارى عن الحسن قال لأن النصارى غلت في المسيح فقالت هو ابن الله وبعضهم قال هو الله وبعضهم قال هو ثالث ثلاثة الأب والابن وروح القدس واليهود غلت فيه حتى قالوا ولد لغير رشدة فالغلو لازم للفريقين وقيل للنصارى خاصة عن أبي علي وأبي مسلم وجماعة من المفسرين ﴿لا تغلوا في دينكم﴾ أي لا تفرطوا في دينكم ولا تجاوزوا الحق فيه ﴿ولا تقولوا على الله إلا الحق﴾ أي قولوا إنه جل جلاله واحد لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد ولا تقولوا في عيسى أنه ابن الله أو شبهه فإنه قول بغير الحق ﴿إنما المسيح﴾ وقد ذكرنا معناه وقيل سمي بذلك لأنه كان يمسح الأرض مشيا ﴿عيسى بن مريم﴾ هذا بيان لقوله المسيح يعني أنه ابن مريم لا ابن الله كما يزعمه النصارى ولا ابن أب كما تزعمه اليهود ﴿رسول الله﴾ أرسله الله إلى الخلق لا كما زعم الفرقتان المبطلتان ﴿وكلمته﴾ يعني أنه حصل بكلمته التي هي قوله كن عن الحسن وقتادة وقيل معناه أنه يهتدي به الخلق كما اهتدوا بكلام الله ووحيه عن أبي علي الجبائي وقيل معناه بشارة الله التي بشر بها مريم على لسان الملائكة كما قال وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة وهو المراد بقوله ﴿ألقاها إلى مريم﴾ كما يقال ألقيت إليك كلمة حسنة أي قلت وقيل معنى ﴿ألقاها إلى مريم﴾ خلقها في رحمها عن الجبائي ﴿وروح منه﴾ فيه أقوال (أحدها) أنه إنما سماه روحا لأنه حدث عن نفخة جبرائيل في درع مريم بأمر الله تعالى وإنما نسبه إليه لأنه كان بأمره وقيل إنما أضافه إلى نفسه تفخيما لشأنه كما قال الصوم لي وأنا أجزي به وقد يسمى النفخ روحا واستشهد على ذلك ببيت ذي الرمة يصف نارا:

فقلت له ارفعها إليك وأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدرا

وظاهر لها من يابس الشخت واستعن

عليه الصبا واجعل يديك لها سترا ومعنى أحيها بروحك أي بنفخك ويقال أقتت النار إذا أطعمتها حطبا (والثاني) أن المراد به يحيي به الناس في دينهم كما يحيون بالأرواح عن الجبائي فيكون المعنى أنه جعله نبيا يقتدى به ويستن بسنته ويهتدي بهداه (والثالث) أن معناه إنسان أحياه الله بتكوينه بلا واسطة من جماع أو نطفة كما جرت العادة بذلك عن أبي عبيدة (والرابع) إن معناه ورحمة منه كما قال في موضع آخر وأيدهم بروح منه أي برحمة منه فجعل الله عيسى رحمة على من آمن به واتبعه لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد (والخامس) أن معناه روح من الله خلقها فصورها ثم أرسلها إلى مريم فدخلت في فيها فصيرها الله تعالى عيسى عن أبي العالية عن أبي بن كعب (والسادس) إن معنى الروح هاهنا جبرائيل (عليه السلام) فيكون عطفا على ما في ألقاها من ضمير ذكر الله وتقديره ألقاها الله إلى مريم وروح منه أي من الله أي جبرائيل ألقاها أيضا إليها ﴿ف آمنوا بالله ورسله﴾ أمرهم الله بتصديقه والإقرار بوحدانيته وتصديق رسله فيما جاءوا به من عنده وفيما أخبروهم به من أن الله سبحانه لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد ﴿ولا تقولوا ثلاثة﴾ هذا خطاب للنصارى أي لا تقولوا إلهنا ثلاثة عن الزجاج وقيل هذا لا يصح لأن النصارى لم يقولوا بثلاثة آلهة ولكنهم يقولون إله واحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس ومعناه لا تقولوا الله ثلاثة أب وابن وروح القدس وقد شبهوا قولهم جوهر واحد ثلاثة أقانيم بقولنا سراج واحد ثم تقول ثلاثة أشياء دهن وقطن ونار وشمس واحدة وإنما هي جسم وضوء وشعاع وهذا غلط بعيد لأنا لا نعني بقولنا سراج واحد إنه شيء واحد بل هو أشياء على الحقيقة وكذلك الشمس كما تقول عشرة واحدة وإنسان واحد ودار واحدة وإنما هي أشياء متغايرة فإن قالوا إن الله شيء واحد وإله واحد حقيقة فقولهم ثلاثة متناقضة وإن قالوا أنه في الحقيقة أشياء مثل ما ذكرناه في الإنسان والسراج وغيرهما فقد تركوا القول بالتوحيد والتحقوا بالمشبهة وإلا فلا واسطة بين الأمرين ﴿انتهوا﴾ عن هذه المقالة الشنيعة أي امتنعوا عنها ﴿خيرا لكم﴾ أي ائتوا بالانتهاء عن قولكم خيرا لكم مما تقولون ﴿إنما الله إله واحد﴾ أي ليس كما تقولون أنه ثالث ثلاثة لأن من كان له ولد أو صاحبة لا يجوز أن يكون إلها معبودا ولكن الله الذي له الإلهية وتحق له العبادة إله واحد لا ولد له ولا شبه له ولا صاحبة له ولا شريك له ثم نزه سبحانه نفسه عما يقوله المبطلون فقال ﴿سبحانه أن يكون له ولد﴾ ولفظة ﴿سبحانه﴾ تفيد التنزيه عما لا يليق به أي هو منزه عن أن يكون له ولد ﴿له ما في السماوات وما في الأرض﴾ ملكا وملكا وخلقا وهو يملكها وله التصرف فيها وفيما بينهما ومن جملة ذلك عيسى وأمه فكيف يكون المملوك والمخلوق ابنا للمالك والخالق ﴿وكفى بالله وكيلا﴾ أي حسب ما في السماوات وما في الأرض بالله قيما ومدبرا ورازقا وقيل معناه وكفى بالله حافظا لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها فهو تسلية للرسول ووعيد للقائلين فيه سبحانه بما لا يليق به.