الآيات 125-126

وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴿125﴾ وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا ﴿126﴾

اللغة:

الخليل مشتق من الخلة بضم الخاء التي هي المحبة أو من الخلة بفتح الخاء التي هي الحاجة وإنما استعمل بمعنى الصداقة لأن كل واحد من المتصادقين يسد خلل صاحبه وقيل لأن كل واحد منهما يطلع صاحبه على أسراره فكأنه في خلل قلبه وإنما استعمل في الحاجة للاختلال الذي يلحق الفقير فيما يحتاج إليه ومنه قول زهير:

وإن أتاه خليل يوم مسغبة

يقول لا غائب مالي ولا حرم وقال الأزهري الخليل الذي خص بالمحبة يقال دعا فلان فخلل أي خص.

الإعراب:

دينا منصوب على التمييز وهو مما انتصب بعد تمام الاسم وقوله ﴿وهو محسن﴾ جملة في موضع النصب على الحال وكذلك قوله ﴿وهو مؤمن﴾ في الآية التي قبل وحنيفا منصوب على الحال وذو الحال الضمير في اتبع والمضمر هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ويجوز أن يكون حنيفا حالا من ﴿ملة إبراهيم﴾ وكان حقه أن يكون فيه الهاء لأن فعيلا إذا كان بمعنى فاعل للمؤنث تثبت فيه الهاء إلا أنه قد جاء مجيء ناقة سديس وريح حريق ويجوز أن يكون حالا من إبراهيم والحال من المضاف إليه عزيز وقد جاء ذلك في الشعر قال النابغة:

قالت بنو عامر خالوا بني أسد

يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام

أي يا بؤس الجهل ضرارا واللام مقمحة لتوكيد الإضافة وخليلا مفعول ثان لاتخذ.

المعنى:

ثم بين سبحانه من يستحق الوعد الذي ذكره قبل فقال ﴿ومن أحسن دينا﴾ وهو في صورة الاستفهام والمراد به التقرير ومعناه من أصوب طريقا وأهدى سبيلا أي لا أحد أحسن اعتقادا ﴿ممن أسلم وجهه لله﴾ أي استسلم وجهه والمراد بقوله ﴿وجهه﴾ هنا ذاته ونفسه كما قال تعالى: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ والمعنى انقاد لله سبحانه بالطاعة ولنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالتصديق وقيل معنى ﴿أسلم وجهه لله﴾ قصده بالعبادة وحده كما أخبر عن إبراهيم (عليه السلام) أنه قال وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض وقيل معناه أخلص أعماله لله أي أتى بها مخلصا لله فيها ﴿وهو محسن﴾ أي فاعل للفعل الحسن الذي أمره الله تعالى وقيل معناه وهو محسن في جميع أقواله وأفعاله وقيل أن المحسن هنا الموحد وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سئل عن الإحسان فقال أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ﴿واتبع ملة إبراهيم﴾ أي افتدى بدينه وسيرته وطريقته يعني ما كان عليه إبراهيم وأمر به بنيه من بعده وأوصاهم به من الإقرار بتوحيده وعدله وتنزيهه عما لا يليق به ومن ذلك الصلاة إلى الكعبة والطواف حولها وسائر المناسك ﴿حنيفا﴾ أي مستقيما على منهاجه وطريقه وقد مر معنى الحنيف في سورة البقرة ﴿واتخذ الله إبراهيم خليلا﴾ أي محبا لا خلل في مودته لكمال خلته والمراد بخلته لله أنه كان مواليا لأولياء الله ومعاديا لأعداء الله والمراد بخلة الله تعالى له نصرته على من أراده بسوء كما أنقذه من نار نمرود وجعلها عليه بردا وسلاما وكما فعله بملك مصر حين راوده عن أهله وجعله إماما للناس وقدوة لهم قال الزجاج جايز أن يكون سمي خليل الله بأنه الذي أحبه الله بأن اصطفاه محبة تامة كاملة وأحب الله هو محبة تامة كاملة وقيل سمي خليلا لأنه افتقر إلى الله وتوكل عليه وانقطع بحوائجه إليه وهو اختيار الفراء وأبي القاسم البلخي وإنما خصه الله بهذا الاسم وإن كان الخلق كلهم فقراء إلى رحمته تشريفا له بالنسبة إليه من حيث أنه فقير إليه لا يرجو لسد خلته سواء كما خص موسى بأنه كليم الله وعيسى بأنه روح الله ومحمدا بأنه حبيب الله وقيل إنما سمي خليلا لأنه سبحانه خصه بما لم يخص به غيره من إنزال الوحي عليه وغير ذلك من خصائصه وإنما خصه من بين سائر الأنبياء بهذا الاسم على المعنيين اللذين ذكرناهما وإن كان كل واحد من الأنبياء خليل الله في زمانه لأنه سبحانه خصهم بالنبوة وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال قد اتخذ الله صاحبكم خليلا يعني نفسه وهذا الوجه اختيار أبي علي الجبائي قال وكل ما تعبد الله به إبراهيم فقد تعبد به نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) وزاده أشياء لم يتعبد بها إبراهيم (عليه السلام) ومما قيل في وجه خلة إبراهيم ما روي في التفسير أن إبراهيم كان يضيف الضيفان ويطعم المساكين وإن الناس أصابهم جدب فارتحل إبراهيم إلى خليل له بمصر يلتمس منه طعاما لأهله فلم يصب ذلك عنده فلما قرب من أهله مر بمفازة ذات رمل لينة فملأ غرائره من ذلك الرمل لئلا يغم أهله برجوعه من غير مبرة فحول الله ما في غرائره دقيقا فلما وصل إلى أهله دخل البيت ونام استحياء منهم ففتحوا الغرائر وعجنوا من الدقيق وخبزوا وقدموا إليه طعاما طيبا فسألهم من أين خبزوا قالوا من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك المصري فقال أما أنه خليلي وليس بمصري فسماه الله سبحانه خليلا رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) ثم بين سبحانه أنه إنما اتخذ إبراهيم خليلا لطاعته ومسارعته إلى رضاه لا لحاجة منه سبحانه إلى خلته فقال ﴿ولله ما في السماوات وما في الأرض﴾ ملكا وملكا فهو مستغن عن جميع خلقه والخلق محتاجون إليه ﴿وكان الله بكل شيء محيطا﴾ يعني لم يزل سبحانه عالما بجميع ما يفعله عباده ومعنى المحيط بالشيء أنه العالم به من جميع وجوهه.