الآيات 61-65

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴿61﴾ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ﴿62﴾ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا ﴿63﴾ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ﴿64﴾ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴿65﴾

القراءة:

قرأ حفص ﴿ورجلك﴾ بكسر الجيم والباقون بسكونها.

الحجة:

من سكن الجيم فهو جمع راجل مثل راكب وركب وصاحب وصحب وتاجر وتجر وأما قراءة حفص بكسر الجيم فروى أبو علي عن أبي زيد يقال رجل للراجل ويقال جاءنا حافيا رجلا وأنشد:

أما أقاتل عن ديني على فرس

ولا كذا رجلا إلا بأصحاب كأنه قال أما أقاتل فارسا وراجلا وروى ابن جني عن قطرب أنه قال: الرجل الرجال وعليه قراءة عكرمة وقتادة ورجالك قال زهير في الرجل:

هم ضربوا عن فرجها بكتيبة

كبيضاء حرس في جوانبها الرجل.

اللغة:

الاحتناك الاقتطاع من الأصل يقال احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كله واحتنك الجراد الزرع إذا أكله كله قال الشاعر:

أشكو إليك سنة قد أجحفت

جهدا إلى جهد بنا وأضعفت

واحتنكت أموالنا وجلفت وقيل إنه من قولهم حنك الدابة يحنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به والموفور المكمل يقال وفرته أفره وفرا قال زهير:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه

يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

والاستفزاز الإزعاج والاستنهاض على خفة وإسراع وأصله القطع وتفزز الثوب إذا تخرق وفززته تفزيزا فكان معنى استفزه استزله بقطعه عن الصواب ورجل فز أي خفيف والاستطاعة قوة تنطاع بها الجوارح للفعل ومنه الطوع والطاعة وهو الانقياد للفعل والإجلاب السوق بجبلة من السائق والجلبة شدة الصوت وقال ابن الأعرابي: أجلب الرجل على صاحبه إذا توعده بالشر وجمع عليه الجيش.

الإعراب:

قال الزجاج طينا منصوب على الحال بمعنى أنك أنشأته في حال كونه من طين ويجوز أن يكون تقديره من طين فحذف من فوصل الفعل ومثله قوله ﴿أن تسترضعوا أولادكم﴾ أي لأولادكم وقيل إنه منصوب على التمييز والكاف في قوله ﴿أرأيتك﴾ لا موضع لها من الإعراب لأنها حرف خطاب جاء للتوكيد وموضع هذا نصب با رأيت والجواب محذوف.

المعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي ولم كرمته علي وقد خلقتني من نار وخلقته من طين فحذف ما ذكرناه لأن في الكلام دليلا عليه.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه قصة آدم (عليه السلام) وإبليس فقال ﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس﴾ قد مر تفسيره في سورة البقرة ﴿قال﴾ إبليس ﴿أأسجد لمن خلقت طينا﴾ وهو استفهام بمعنى الإنكار أي كيف أسجد له وأنا أفضل منه وأصلي أشرف من أصله وفي هذا دلالة على أن إبليس فهم من ذلك تفضيل آدم على الملائكة ولو لا ذلك لما كان لامتناعه من السجود وجه وإنما جاز أن يأمرهم سبحانه بالسجود لآدم (عليه السلام) ولم يجز أن يأمرهم بالعبادة له لأن السجود يترتب في التعظيم حسب ما يراد به وليس كذلك العبادة التي هي خضوع بالقلب ليس فوقه خضوع لأنه يترتب في التعظيم لجنسه يبين ذلك أنه لو سجد ساهيا لم يكن له منزلة في التعظيم على قياس غيره من أفعال الجوارح ﴿قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي﴾ أي قال إبليس أ رأيت يا رب هذا الذي فضلته علي يعني آدم (عليه السلام) ﴿لئن أخرتن إلى يوم القيامة﴾ أي لئن أخرت أجل موتي ﴿لأحتنكن ذريته إلا قليلا﴾ أي لأغوين ذريته وأقودنهم معي إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحنكها إذا شد فيها حبل تجر به إلا القليل الذين تعصمهم وهم المخلصون عن أبي مسلم وقيل لأحتنكنهم أي لأستولين عليهم عن ابن عباس وقيل لأستاصلنهم بالإغواء من احتناك الجراد الزرع وهو أن يأكله ويستأصله عن الجبائي وإنما طمع الملعون في ذلك لأن الله سبحانه أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض من يفسد فيها فكأن العلم قد سبق له بذلك عن الجبائي وقيل لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فقال إن أولاده أضعف منه عن الحسن ﴿قال﴾ الله سبحانه له على وجه الاستهانة والاستصغار ﴿اذهب﴾ يا إبليس ﴿فمن تبعك منهم﴾ أي من ذرية آدم (عليه السلام) واقتفى أثرك وقبل منك ﴿فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا﴾ أي موفرا كاملا لا نقصان فيه عن الاستحقاق ﴿واستفزز من استطعت منهم بصوتك﴾ أي واستزل من استطعت منهم أضلهم بدعائك ووسوستك من قولهم صوت فلان بفلان إذا دعاه وهذا تهديد في صورة الأمر عن ابن عباس ويكون كما يقول الإنسان لمن يهدده اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك وإنما جاء التهديد في صورة الأمر لأنه بمنزلة أن يؤمر الغير بإهانة نفسه وقيل بصوتك أي بالغناء والمزامير والملاهي عن مجاهد وقيل كل صوت يدعى به إلى الفساد فهو من صوت الشياطين ﴿واجلب عليهم بخيلك ورجلك﴾ أي أجمع عليهم ما قدرت عليه من مكايدك وأتباعك وذريتك وأعوانك وعلى هذا فيكون الباء مزيدة في بخيلك وكل راكب أو ماش في معصية الله من الإنس والجن فهو من خيل إبليس ورجله وقيل هو من أجلب القوم وجلبوا أي صاحوا أي صح بخيلك ورجلك واحشرهم عليهم بالإغواء ﴿وشاركهم في الأموال والأولاد﴾ وهو كل مال أصيب من حرام وأخذ بغير حقه وكل ولد زنا عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقيل إن مشاركتهم في الأموال أنه أمرهم أن يجعلوها سائبة وبحيرة وغير ذلك وفي الأولاد أنهم هودوهم ونصروهم ومجسوهم عن قتادة وقيل إن كل مال حرام أو فرج حرام فله فيه شرك عن الكلبي وقيل إن المراد بالأولاد تسميتهم عبد شمس وعبد الحرث ونحوهما وقيل هو قتل الموءودة من أولادهم والقولان مرويان عن ابن عباس ﴿وعدهم﴾ أي ومنهم البقاء وطول الأمل وأنهم لا يبعثون وكل هذا زجر وتهديد في صورة الأمر ﴿وما يعدهم الشيطان إلا غرورا﴾ هذا إخبار من الله عز وجل أن مواعيد الشيطان تكون غرورا أي يزين لهم الخطأ أنه صواب وهو اعتراض ﴿إن عبادي﴾ يعني الذين يطيعونني أضافهم إلى نفسه تشريفا لهم ﴿ليس لك عليهم سلطان﴾ أي قوة ونفاذ لأنهم يعلمون أن مواعيدك باطلة فلا يغترون بها وقيل معناه لا سلطان لك على جميع عبادي إلا في الوسوسة والدعاء إلى المعصية فأما في أن تمنعهم عن الطاعة وتحملهم على المعصية جبرا وكرها فلا عن الجبائي ﴿وكفى بربك وكيلا﴾ أي حافظا لعباده من شرك.

النظم:

الوجه في اتصال الآيات بما قبلها على تقدير وما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا محققين ظن إبليس فيهم يوم قيل له اسجد فقال كذا وكذا عن علي بن عيسى وقيل اتصلت بقوله ﴿إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا﴾ ثم عاد إلى ذكر الشيطان لزيادة الإيضاح والبيان بما أبان عن قصته مع آدم (عليه السلام) عن أبي مسلم.