الآيات 1-3

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴿1﴾ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ﴿2﴾ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴿3﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو وحده ألا يتخذوا بالياء والباقون بالتاء.

الحجة:

من قرأ بالياء فلأن ما تقدمه على لفظ الغيبة والمعنى هديناهم لأن لا يتخذوا ومن قرأ بالتاء فللانصراف من الغيبة إلى الخطاب كما في قوله ﴿الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين﴾ ثم قال ﴿إياك نعبد﴾ والضمير في ﴿ألا تتخذوا﴾ وإن كان على لفظ الخطاب فإنما يعني به الغيب في المعنى.

الإعراب:

سبحان منصوب على المصدر على معنى أسبح لله تسبيحا قال أبو علي من زعم أن ألا تتخذوا على إضمار القول فكأنه يراد قال أن لا تتخذوا لم يكن قوله هذا مستقيما وذلك لأن القول لا يخلو من أن يكون بعده جملة تحكى أو معنى جملة يعمل فيه لفظ القول فالأول كقوله قال زيد عمرو منطلق فموضع الجملة نصب بالقول والآخر نحو أن يقول القائل لا إله إلا الله فتقول قلت حقا أن يقول الثلج حار فتقول قلت باطلا فهذا معنى ما قاله وليس نفس المقول وقوله ﴿ألا تتخذوا﴾ خارج من هذين الوجهين ألا ترى أن لا تتخذوا ليس هو القول كما أن قولك حقا إذا سمعت كلمة الإخلاص بمعنى القول وليس قوله ﴿ألا تتخذوا﴾ الجملة فيكون كقولك قال زيد عمرو منطلق ويجوز أن تكون أن بمعنى أي التي للتفسير وانصرف الكلام في الغيبة إلى الخطاب كما انصرف منها إلى الخطاب في قوله ﴿وانطلق الملأ منهم أن امشوا﴾ في الأمر فكذلك انصرف في الغيبة إلى الخطاب في النهي في أن لا تتخذوا وكذلك قوله ﴿أن اعبدوا الله ربي وربكم﴾ في وقوع الأمر بعد الخطاب ويجوز أن يضمر القول ويحمل يتخذوا على القول المضمر إذا جعلت أن زائدة فيكون التقدير وجعلناه هدى لبني إسرائيل وقلنا لا تتخذوا فيجوز إذا في قوله ﴿ألا تتخذوا﴾ ثلاثة أوجه (أحدها) أن تكون أن الناصبة للفعل فيكون المعنى وجعلناه هدى كراهة أن يتخذوا من دوني وكيلا أو لأن لا يتخذوا (والآخر) أن يكون بمعنى أي لأنه بعد كلام تام فيكون التقدير أي لا تتخذوا (والثالث) أن تكون أن زائدة ويضمر القول فأما قوله ﴿ذرية من حملنا﴾ فإنه يجوز أن يكون مفعول الاتخاذ لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين وأفرد الوكيل وهو في معنى الجمع لأن فعيلا يكون مفردا للفظ والمعنى على الجمع نحو قوله ﴿وحسن أولئك رفيقا﴾ فإذا حمل على هذا كان مفعولا ثانيا في قراءة من قرأ بالتاء والياء ويجوز أن يكون نداء وذلك على قراءة من قرأ بالتاء لأن النداء للخطاب ولو رفع ذرية على البدل من الضمير المرفوع في أن لا تتخذوا كان جائزا ويكون التقدير ألا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلا ولو جعلته مجردا بدلا من قولك بني إسرائيل جاز وكان التقدير وجعلناه هدى لذرية من حملنا مع نوح.

النزول:

قيل نزلت الآية في إسرائه وكان ذلك بمكة صلى المغرب في المسجد الحرام ثم أسري به في ليلته ثم رجع فصلى الصبح في المسجد الحرام فأما الموضع الذي أسري إليه أين كان فإن الإسراء إلى بيت المقدس وقد نطق به القرآن ولا يدفعه مسلم وما قاله بعضهم إن ذلك كان في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان وقد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج في عروج نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى السماء ورواه كثير من الصحابة مثل ابن عباس وابن مسعود وأنس وجابر بن عبد الله وحذيفة وعائشة وأم هاني وغيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وزاد بعضهم ونقص بعض وتنقسم جملتها إلى أربعة أوجه (أحدها) ما يقطع على صحته لتواتر الأخبار به وإحاطة العلم بصحته (وثانيها) ما ورد في ذلك مما تجوزه العقول ولا تأباه الأصول فنحن نجوزه ثم نقطع على أن ذلك كان في يقظته دون منامه (وثالثها) ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول إلا أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول فالأولى أن ناوله على ما يطابق الحق والدليل (ورابعها) ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله إلا على التعسف البعيد فالأولى أن لا نقبله فأما الأول المقطوع به فهو أنه أسري به على الجملة وأما الثاني فمنه ما روي أنه طاف في السماوات ورأى قوما في الجنة يتنعمون فيها وقوما في النار يعذبون فيها فيحمل على أنه رأى صفتهم أو أسماءهم (وأما) الرابع فنحو ما روي أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كلم الله سبحانه جهرة ورآه وقعد معه على سريره ونحو ذلك مما يوجب ظاهره التشبيه والله سبحانه يتقدس عن ذلك وكذلك ما روي أنه شق بطنه وغسله لأنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان طاهرا مطهرا من كل سوء وعيب وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء فمن جملة الأخبار الواردة في قصة المعراج ما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أتاني جبرائيل (عليه السلام) وأنا بمكة فقال قم يا محمد فقمت معه وخرجت إلى الباب فإذا جبرائيل ومعه ميكائيل وإسرافيل فأتى جبرائيل (عليهما السلام) بالبراق وكان فوق الحمار ودون البغل خده كخد الإنسان وذنبه كذنب البقر وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإبل عليه رحل من الجنة وله جناحان من فخذيه خطوة منتهى طرفه فقال اركب فركبت ومضيت حتى انتهيت إلى بيت المقدس ثم ساق الحديث إلى أن قال فلما انتهيت إلى بيت المقدس إذا ملائكة نزلت من السماء بالبشارة والكرامة من عند رب العزة وصليت في بيت المقدس وفي بعضها بشر لي إبراهيم في رهط من الأنبياء ثم وصف موسى وعيسى ثم أخذ جبرائيل (عليه السلام) بيدي إلى الصخرة فأقعدني عليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا وجمالا فصعدت إلى السماء الدنيا ورأيت عجائبها وملكوتها وملائكتها يسلمون علي ثم صعد بي جبرائيل إلى السماء الثانية فرأيت فيها عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فرأيت فيها يوسف ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فرأيت فيها إدريس ثم صعد به إلى السماء الخامسة فرأيت فيها هارون ثم صعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض وفيها الكروبيون ثم صعد بي إلى السابعة فأبصرت فيها خلقا وملائكة وفي حديث أبي هريرة رأيت في السماء السادسة موسى ورأيت في السماء السابعة إبراهيم (عليه السلام) قال ثم جاوزناها متصاعدين إلى أعلى عليين ووصف ذلك إلى أن قال ثم كلمني ربي وكلمته ورأيت الجنة والنار ورأيت العرش وسدرة المنتهى ثم رجعت إلى مكة فلما أصبحت حدثت به بالناس فكذبني أبو جهل والمشركون وقال مطعم بن عدي أ تزعم أنك سرت مسيرة شهرين في ساعة أشهد أنك كاذب قالوا ثم قالت قريش أخبرنا عما رأيت فقال مررت بعير بني فلان وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحلهم قعب مملوء من ماء فشربت الماء ثم غطيته كما كان فسألوهم هل وجدوا الماء في القدح قالوا هذه آية واحدة قال ومررت بعير بني فلان فنفرت بكرة فلان فانكسرت يدها فسألوهم عن ذلك فقالوا هذه آية أخرى قالوا فأخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم وبين لهم إجمالها وهيئاتها وقال تقدمها جمل أورق عليه قرارتان محيطتان ويطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا هذه آية أخرى ثم خرجوا يشتدون نحو التيه وهم يقولون لقد قضى محمد بيننا وبينه قضاء بينا وجلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه فقال قائل والله إن الشمس قد طلعت وقال آخر والله هذه الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق فبهتوا ولم يؤمنوا وفي تفسير العياشي بالإسناد عن أبي بكر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لما أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى السماء الدنيا لم يمر بأحد من الملائكة إلا استبشر قال ثم مر بملك حزين كئيب فلم يستبشر به فقال يا جبرائيل ما مررت بأحد من الملائكة إلا استبشر بي إلا هذا الملك فمن هذا فقال هذا مالك خازن جهنم وهكذا جعله الله قال فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يا جبرائيل اسأله أن يرينيها قال فقال جبرائيل (عليه السلام) يا مالك هذا محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقد شكا إلي فقال ما مررت بأحد من الملائكة إلا استبشر بي إلا هذا فأخبرته أن هكذا جعله الله وقد سألني أن أسألك أن تريه جهنم قال فكشف له عن طبق من أطباقها قال فما رئي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ضاحكا حتى قبض وعن أبي بصير قال سمعته يقول إن جبرائيل احتمل رسول الله حتى انتهى به إلى مكان من السماء ثم تركه وقال له ما وطأ نبي قط مكانك.

المعنى:

﴿سبحان الذي أسرى بعبده﴾ سبحان كلمة تنزيه وإبراء لله عز اسمه عما لا يليق به من الصفات وقد يراد به التعجيب يعني سبحان الذي سير عبده محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو عجيب من قدرة الله تعالى وتعجيب ممن لم يقدر الله حق قدره وأشرك به غيره وسرى بالليل وأسرى بمعنى وقد عدي هنا بالباء والوجه في التأويل أنه إذا كان مشاهدة العجب سببا للتسبيح صار التسبيح تعجبا فقيل سبح أي عجب ﴿ليلا﴾ قالوا كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة ﴿من المسجد الحرام﴾ وقال أكثر المفسرين أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من دار أم هاني أخت علي بن أبي طالب وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي وكان (صلى الله عليه وآله وسلّم) نائما تلك الليلة في بيتها وإن المراد بالمسجد الحرام هنا مكة ومكة والحرم كلها مسجد وقال الحسن وقتادة كان الإسراء من نفس المسجد الحرام ﴿إلى المسجد الأقصى﴾ يعني بيت المقدس وإنما قال الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ﴿الذي باركنا حوله﴾ أي جعلنا البركة فيما حوله من الأشجار والأثمار والنبات والأمن والخصب حتى لا يحتاجوا إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر وقيل باركنا حوله أي البركة فيما حوله بأن جعلناه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة عن مجاهد وبذلك صار مقدسا عن الشرك لأنه لما صار متعبدا للأنبياء ودار مقام لهم تفرق المشركون عنهم فصار مطهرا من الشرك والتقديس التطهير فقد اجتمع فيه بركات الدين والدنيا ﴿لنريه من آياتنا﴾ أي من عجائب حججنا ومنها إسراؤه في ليلة واحدة من مكة إلى هناك ومنها أن أراه الأنبياء واحدا بعد واحد وأن عرج به إلى السماء وغير ذلك من العجائب التي أخبر بها الناس ﴿إنه هو السميع﴾ لأقوال من صدق بذلك أو كذب ﴿البصير﴾ بما فعل من الإسراء والمعراج ﴿وآتينا موسى الكتاب﴾ يعني التوراة ﴿وجعلناه هدى لبني إسرائيل﴾ أي وجعلنا التوراة حجة ودلالة وبيانا وإرشادا لبني إسرائيل يهتدون به ﴿ألا تتخذوا من دوني وكيلا﴾ أي أمرهم أن لا يتخذوا من دوني معتمدا يرجعون إليه في النوائب وقيل ربا يتوكلون عليه ﴿ذرية من حملنا مع نوح﴾ أي أولاد من حملنا مع نوح في السفينة فأنجيناه من الطوفان وقد ذكرنا وجوه ذلك في الإعراب وعلى هذا يدور المعنى ﴿إنه كان عبدا شكورا﴾ معناه أن نوحا كان عبدا لله كثير الشكر وكان إذا لبس ثوبا أو أكل طعاما أو شرب ماء حمد الله وشكر له وقال الحمد لله وقيل إنه كان يقول في ابتداء الأكل والشرب بسم الله وفي انتهائه الحمد لله وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي جعفر (عليه السلام) أن نوحا كان إذا أصبح وأمسى قال اللهم إني أشهدك أن ما أصبح أو أمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك لك الحمد ولك الشكر بها علي حتى ترضى وبعد الرضى وهذا كان شكره.

النظم:

وجه اتصال قوله ﴿وآتينا موسى الكتاب﴾ بما قبله أن المعنى فيه سبحان الذي أسرى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأراه الآيات كلها كما أرى موسى الآيات والمعجزات الباهرات وقيل إن معناه إن كونك نبيا ليس ببدع فقد آتيناك الكتاب والحجج كما آتينا موسى التوراة فلم أقروا به وأنكروا أمرك والطريق فيهما واحد وقيل إن معناه أنهم كفروا بموسى كما كفروا بما أخبرتهم به من إسرائك.