الآيـة 171

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴿171﴾

اللغة:

المثل قول سائر يدل على أن سبيل الثاني سبيل الأول نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا قال الأخطل:

فانعق بضانك يا جرير فإنما

منتك نفسك في الخلاء ضلالا ونعق الغراب نعاقا ونعيقا إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها ونغق بالغين بمعناه فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل نعب والناعقان كوكبان من كواكب الجوزاء ورجلها اليسرى ومنكبها الأيمن وهو الذي يسمى الهنعة وهما أضوأ كواكب الجوزاء والدعاء طلب الفعل من المدعو ونظيره الأمر والفرق بينهما يظهر بالرتبة والنداء مصدر نادى مناداة ونداء والدعاء والسؤال بمعناه والندى له وجوه في المعنى يقال ندى الماء وندى الخير والشر وندى الصوت وندى الحضر فالندى هو البلل وندى الخير هو المعروف يقال أندى فلان علينا ندى كثيرا ويده ندية بالمعروف وندى الصوت بعد مذهبه وندى الحضر صحة جريه واشتق النداء من ندى الصوت ناداه أي دعاه بأرفع صوته.

المعنى:

ثم ضرب الله مثلا للكفار في تركهم إجابة من يدعوهم إلى التوحيد وركونهم إلى التقليد فقال ﴿ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق﴾ أي يصوت ﴿بما لا يسمع﴾ من البهائم ﴿إلا دعاء ونداء﴾ واختلف في تقدير الكلام وتأويله على وجوه (أولها) أن المعنى مثل الذين كفروا في دعائك إياهم أي مثل الداعي لهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم وإنما تسمع الصوت فكما أن الأنعام لا يحصل لها من دعاء الراعي إلا السماع دون تفهم المعنى فكذلك الكفار لا يحصل لهم من دعائك إياهم إلى الإيمان إلا السماع دون تفهم المعنى لأنهم يعرضون عن قبول قولك وينصرفون عن تأمله فيكونون بمنزلة من لم يعقله ولم يفهمه وهذا كما تقول العرب فلان يخافك كخوف الأسد والمعنى كخوفه من الأسد فأضاف الخوف إلى الأسد وهو في المعنى مضاف إلى الرجل قال الشاعر:

فلست مسلما ما دمت حيا

على زيد بتسليم الأمير أراد بتسليمي على الأمير وهذا معنى قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وهو اختيار الجبائي والرماني والطبري (وثانيها) أن يكون المعنى مثل الذين كفروا ومثلنا أو مثل الذين كفروا ومثلك يا محمد كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء أي كمثل الأنعام المنعوق بها والناعق الراعي الذي يكلمها وهي لا تعقل فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول ومثله قوله سبحانه ﴿وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر﴾ وأراد الحر والبرد وقال أبو ذؤيب:

عصيت إليها القلب إني لأمرها

مطيع فما أدري أرشد طلابها أراد أ رشد أم غي فاكتفى بذكر الرشد لوضوح الأمر وهو قول الأخفش والزجاج وهذا لأن في الآية تشبيه شيئين بشيئين تشبيه الداعي إلى الإيمان بالراعي وتشبيه المدعوين من الكفار بالأنعام فحذف ما حذف للإيجاز وأبقي في الأول ذكر المدعو وفي الثاني ذكر الداعي وفيما أبقي دليل على ما ألقى (وثالثها) أن المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الراعي في دعائه الأنعام بتعال وما جرى مجراه من الكلام فكما أن من دعا البهائم يعد جاهلا فداعي الحجارة أشد جهلا منه لأن البهائم تسمع الدعاء وإن لم تفهم معناه والأصنام لا يحصل لها السماع أيضا عن أبي القاسم البلخي وغيره (ورابعها) أن مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وهي لا تعقل ولا تفهم كمثل الذي ينعق دعاء ونداء بما لا يسمع صوته جملة ويكون المثل مصروفا إلى غير الغنم وما أشبهها مما يسمع وإن لم يفهم وعلى هذا الوجه ينتصب دعاء ونداء بينعق وإلا ملغاة لتوكيد الكلام كما في قول الفرزدق:

هم القوم إلا حيث سلوا سيوفهم

وضحوا بلحم من محل ومحرم والمعنى هم القوم حيث سلوا سيوفهم (وخامسها) أن يكون المعنى ومثل الذين كفروا كمثل الغنم الذي لا يفهم دعاء الناعق فأضاف سبحانه المثل الثاني إلى الناعق وهو في المعنى مضاف إلى المنعوق به على مذهب العرب في القلب نحو قولهم طلعت الشعري وانتصب العود على الحرباء والمعنى انتصب الحرباء على العود وأنشد الفراء:

إن سراجا لكريم مفخره

تجلى به العين إذا ما تجمره أي تجلى بالعين وأنشد أيضا:

كانت فريضة ما تقول كما

كان الزنا فريضة الرجم والمعنى كما كان الرجم فريضة الزنا وأنشد:

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل أي ما تزيد مخافة وعل على مخافتي وقال العباس بن مرداس:

فديت بنفسه نفسي ومالي

وما آلوك إلا ما أطيق أراد بنفسي نفسه ثم وصفهم سبحانه بما يجري مجرى التهجين والتوبيخ فقال ﴿صم بكم عمي﴾ أي صم عن استماع الحجة بكم عن التكلم بها عمي عن الأبصار لها وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي وقد مر بيانه في أول السورة أبسط من هذا ﴿فهم لا يعقلون﴾ أي هم بمنزلة من لا عقل له إذ لم ينتفعوا بعقولهم.