الآية- 6

وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ﴿6﴾

اللغة:

الإيناس الإبصار من قوله آنس من جانب الطور نارا أخذ من إنسان العين وهو حدقتها التي تبصر بها وأنست به أنسا ألفته وفي قراءة عبد الله أحستم أي أحسستم بمعنى وجدتم فحذف إحدى السينين نحو قوله ﴿فظلتم تفكهون﴾ وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح وربما كان ذلك في الإفراط وربما كان في التقصير غير أنه إذا كان في الإفراط يقال منه أسرف يسرف إسرافا وإذا كان في التقصير يقال سرف يسرف سرفا ويقال مررت بكم فسرفتكم يراد به سهوت عنكم وأخطأتكم قال الشاعر:

أعطوا هنيدة تحذوها ثمانية

ما في عطائهم من ولا سرف يريد أنهم يصيبون مواضع الإعطاء فلا يخطئونها والبدار المبادرة وأصل ذلك الامتلاء ومنه البدر القمر لامتلائه نورا والبدرة لامتلائها بالمال والبيدر لامتلائه بالطعام وعين حدرة بدرة مكتنزة والحسيب الكافي من قولهم أحسبني الشيء إذا كفاني والحسيب من الرجال المرتفع النسب وقيل الحسيب بمعنى المحاسب.

الإعراب:

﴿إسرافا﴾ مصدر وضع موضع الحال وكذلك قوله ﴿بدارا﴾ وموضع ﴿أن يكبروا﴾ نصب بالمبادرة أي لا تأكلوا مسرفين ومبادرين كبرهم وقوله ﴿بالمعروف﴾ الجار والمجرور في موضع نصب على الحال و﴿كفى بالله﴾ الباء مزيدة والجار والمجرور هنا في موضع رفع بأنه فاعل كفى و﴿حسيبا﴾ منصوب على الحال أو التمييز والتقدير كفى الله في حال الحساب.

المعنى:

لما أمر الله بإيتاء الأيتام أموالهم ومنع من دفع المال إلى السفهاء بين هنا الحد الفاصل بين ما يحل من ذلك للولي وما لا يحل فقال ﴿و ابتلوا اليتامى﴾ هذا خطاب لأولياء اليتامى أمرهم الله أن يختبروا عقول اليتامى في أفهامهم وصلاحهم في أديانهم وإصلاحهم في أموالهم وهو قول قتادة والحسن والسدي ومجاهد وابن عباس ﴿حتى إذا بلغوا النكاح﴾ معناه حتى يبلغوا الحد الذي يقدرون معه على المواقعة وينزلون وليس المراد بالبلوغ الاحتلام لأن في الناس من لا يحتلم أو يتأخر احتلامه وهو قول أكثر المفسرين فمنهم من قال إذا كمل عقله وأونس منه الرشد سلم إليه ماله وهو الأولى ومنهم من قال لا يسلم إليه ماله وإن كان عاقلا حتى يبلغ خمس عشرة سنة قال أصحابنا حد البلوغ أما كمال خمس عشرة سنة أو بلوغ النكاح أو الإنبات وقوله ﴿فإن آنستم منهم رشدا﴾ معناه فإن وجدتم منهم رشدا أو عرفتموه واختلف في معنى قوله ﴿رشدا﴾ فقيل عقلا ودينا وصلاحا عن قتادة والسدي وقيل صلاحا في الدين وإصلاحا في المال عن الحسن وابن عباس وقيل عقلا عن مجاهد والشعبي قالا لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن أخذ بلحيته وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشد العقل والأقوى أن يحمل على أن المراد به العقل وإصلاح المال على ما قاله ابن عباس والحسن وهو المروي عن الباقر للإجماع على أن يكون كذلك لا يجوز عليه الحجر في ماله وإن كان فاجرا في دينه فكذلك إذا بلغ وهو بهذه الصفة وجب تسليم ماله إليه وفيه أيضا دلالة على جواز الحجر على العاقل إذا كان مفسدا لماله من حيث أنه إذا جاز أن يمنع المال عند البلوغ إذا كان مفسدا له فكذلك يجوز الحجر عليه إذا كان مفسدا له بعد البلوغ وهو المشهور في أخبارنا وقوله ﴿فادفعوا إليهم أموالهم﴾ خطاب لأولياء اليتيم وهو تعليق لجواز الدفع بالشرطين البلوغ وإيناس الرشد فلا يجوز الدفع قبلهما ﴿ولا تأكلوها إسرافا﴾ أي بغير ما أباحه الله لكم وقيل معناه لا تأكلوا من مال اليتيم فوق ما تحتاجون إليه فإن لولي اليتيم أن يتناول من ماله قدر القوت إذا كان محتاجا على وجه الأجرة على عمله في مال اليتيم وقيل أن كل شيء من مال اليتيم فهو الأكل على وجه الإسراف والأول أليق بمذهبنا فقد روى محمد بن مسلم عن أحدهما قال سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخ له يتيم في حجره أ يخلط أمرها بأمر ماشيته قال إن كان يليط حياضها ويقوم على مهنتها ويرد نادتها فليشرب من ألبانها غير منهك للحلبات ولا مضر بالولد وقوله ﴿وبدارا أن يكبروا﴾ أي ومبادرة لكبرهم معناه لا تبادروا بأكل مالهم كبرهم ورشدهم حذرا أن يبلغوا فيلزمكم تسليم المال إليهم ﴿ومن كان غنيا فليستعفف﴾ أي من كان غنيا من الأولياء فليستعفف بماله عن أكل مال اليتيم ولا يأخذ لنفسه منه لا قليلا ولا كثيرا يقال استعف عن الشيء وعف عنه إذا امتنع منه وتركه ﴿ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف﴾ ومعناه من كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة والكفاية على جهة القرض ثم يرد عليه ما أخذ منه إذا وجد عن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية والزهري وعبيدة السلماني وهو مروي عن الباقر (عليه السلام) وقيل معناه يأخذ قدر ما يسد به جوعته ويستر عورته لا على جهة القرض عن عطاء بن أبي رباح وقتادة وجماعة ولم يوجبوا أجرة المثل لأن أجرة المثل ربما كانت أكثر من قدر الحاجة والظاهر في روايات أصحابنا له أجرة المثل سواء كان قدر كفايته أو لم يكن وسئل ابن عباس عن ولي يتيم له إبل هل له أن يصيب من ألبانها فقال إن كنت تلوط حوضها وتهنأ جرباها أصبت من رسلها غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب والرسل اللبن والنهك المبالغة في الحلب ﴿فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم﴾ وهذا خطاب أيضا لأولياء اليتيم أي إذا دفعتم إلى اليتامى أموالهم بعد البلوغ فاحتاطوا لأنفسكم بالإشهاد عليهم كي لا يقع منهم جحود وتكونوا أبعد من التهمة فانظر إلى حسن نظر الله لليتامى وللأوصياء وكمال لطفه بهم ورحمته لهم وإنعامه عليهم وكذلك نظره ولطفه بجميع عباده في أمور معاشهم ومعادهم ﴿وكفى بالله حسيبا﴾ أي شاهدا على دفع المال إليهم وكفى بعلمه وثيقة وقيل محاسبا فاحذروا محاسبته في الآخرة كما تحذرون محاسبة اليتيم بعد البلوغ.