الآية- 1

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴿1﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة تسئلون بتخفيف السين والباقون بتشديدها وقرأ حمزة والأرحام بالجر والباقون بالنصب وقرىء في الشواذ والأرحام بالرفع.

الحجة:

من خفف تسئلون أراد تتساءلون فحذف التاء من تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة ومن شدد فقال ﴿تساءلون﴾ فإنه أدغم التاء في السين وحسن ذلك لاجتماعهما في أنهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا واجتماعهما في الهمس فخفف هنا بالإدغام كما خفف هناك بالحذف قال أبو علي من نصب ﴿الأرحام﴾ احتمل انتصابه وجهين (أحدهما) أن يكون معطوفا على موضع الجار والمجرور (والآخر) أن يكون معطوفا على ﴿اتقوا﴾ وتقديره واتقوا الله واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها وأما من جر فإنه عطف على الضمير المجرور بالباء وهذا ضعيف في القياس وقليل في الاستعمال وما كان كذلك فترك الأخذ به أحسن وإنما ضعف في القياس لأن الضمير قد صار عوضا مما كان متصلا بالاسم من التنوين فقبح أن يعطف عليه كما لا يعطف الظاهر على التنوين ويدلك على أنه أجري عندهم مجرى التنوين حذفهم الياء من المنادى المضاف إليها كحذفهم التنوين وذلك قولهم يا غلام وهو الأكثر من غيره ووجه الشبه بينهما أنه على حرف كما أن التنوين كذلك واجتماعهما في السكون ولأنه لا يوقف على الاسم منفصلا منه كما أن التنوين كذلك والمضمر أذهب في مشابهة التنوين من المظهر لأنه قد يفصل بين المضاف والمضاف إليه إذا كان ظاهرا بالظروف وبغيرها نحو قول الشاعر:

كان أصوات من إيغالهن بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج وقول الآخر:

من قرع القسي الكنائن

وليس المضمر في هذا كالظاهر فلما كان كذلك لم يستجيزوا عطف الظاهر عليه لأن المعطوف ينبغي أن يكون مشاكلا للمعطوف عليه وقد جاء ذلك في ضرورة الشعر أنشد سيبويه:

فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيام من عجب فعطف الأيام على موضع الكاف وقال آخر:

نعلق في مثل السواري سيوفنا

وما بينها والكعب غوط نفانف

فعطف الكعب على الهاء والألف في بينها ومثل ذلك لا يجوز في القرآن والكلام الفصيح قال المازني وذلك لأن الثاني في العطف شريك للأول فإن كان الأول يصلح أن يكون شريكا للثاني وإلا لم يصلح أن يكون الثاني شريكا فكما لا تقول مررت بزيد وك كذلك لا تقول مررت بك وزيد وأما القراءة الشاذة في رفع ﴿الأرحام﴾ فالوجه في رفعه على الابتداء أي والأرحام مما يجب أن تتقوه وحذف الخبر للعلم به.

اللغة:

البث النشر يقال بث الله الخلق ومنه قوله كالفراش المبثوث وبعضهم يقول أبث بمعناه بثثتك سري وأبثثتك سري لغتان وأصل الرقيب من الترقيب وهو الانتظار ومنه الرقبى لأن كل واحد منهما ينتظر موت صاحبه يقال رقب يرقب رقوبا ورقبة ورقبا فعلى هذا يكون الرقيب فعيلا بمعنى الفاعل وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء.

المعنى:

ابتدأ الله سبحانه هذه السورة بالموعظة والأمر بالتقوى فقال ﴿يا أيها الناس﴾ وهو خطاب للمكلفين من جميع البشر وقيل النداء إنما كان سائر كتب الله السالفة بيا أيها المساكين وأما في القرآن فما نزل بمكة فالنداء بيا أيها الناس وما نزل بالمدينة فمرة بيا أيها الذين آمنوا ومرة بيا أيها الناس ﴿اتقوا ربكم﴾ معناه اتقوا معصية ربكم أو مخالفة ربكم بترك ما أمر به وارتكاب ما نهى عنه وقيل معناه اتقوا حقه أن تضيعوه وقيل اتقوا عقابه فكأنه قال يحق عليكم أن تتقوا عقاب من أنعم عليكم بأعظم النعم وهي أن خلقكم من نفس واحدة وأوجدكم ومن عظمت عنده النعمي فهو بالتقوى أولى وقيل إن المراد به بيان كمال قدرته فكأنه قال الذي قدر على أن خلقكم من نفس واحدة فهو على عقابكم أقدر فيحق عليكم أن تتركوا مخالفته وتتقوا عقوبته وقوله ﴿الذي خلقكم من نفس واحدة﴾ المراد بالنفس هنا آدم عند جميع المفسرين وإنما لم يقل نفس واحد بالتذكير وإن كان المراد آدم لأن لفظ النفس مؤنث بالصيغة فهو كقول الشاعر:

أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال

فأنث على اللفظ ولو قال من نفس واحد لجاز ﴿و خلق منها زوجها﴾ يعني حواء (عليها السلام) ذهب أكثر المفسرين إلى أنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم (عليه السلام) ورووا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال خلقت المرأة من ضلع آدم (عليه السلام) إن أقمتها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أن الله تعالى خلق حواء من فضل الطينة التي خلق منها آدم وفي تفسير علي بن إبراهيم من أسفل أضلاعه ﴿وبث منهما رجالا كثيرا﴾ أي نشر وفرق من هاتين النفسين على وجه التناسل رجالا ﴿ونساء﴾ وإنما من علينا تعالى بأن خلقنا من نفس واحدة لأنه أقرب إلى أن يعطف بعضنا على بعض ويرحم بعضنا بعضا لرجوعنا إلى أصل واحد ولأن ذلك أبلغ في القدرة وأدل على العلم والحكمة وقوله ﴿واتقوا الله الذي تساءلون به﴾ قيل في معناه قولان أحدهما أنه من قولهم أسألك بالله أن تفعل كذا وأنشدك بالله وبالرحم ونشدتك الله والرحم وكذا كانت العرب تقول عن الحسن وإبراهيم وعلى هذا يكون قوله ﴿والأرحام﴾ عطفا على موضع قوله به والمعنى إنكم كما تعظمون الله بأقوالكم فعظموه بطاعتكم إياه والآخر أن معنى ﴿تساءلون به﴾ تطلبون حقوقكم وحوائجكم فيما بينكم به ﴿والأرحام﴾ معناه واتقوا الأرحام أن تقطعوها عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك والربيع وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) فعلى هذا يكون منصوبا عطفا على اسم الله تعالى وهذا يدل على وجوب صلة الرحم ويؤيده ما رواه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال قال الله تعالى أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته وفي أمثال هذا الخبر كثرة وصلة الرحم قد تكون بقبول النسب وقد تكون بالإنفاق على ذي الرحم وما يجري مجراه وروى الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال أن أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل به النار فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمة فليمسه فإن الرحم إذا مستها الرحم استقرت وإنها متعلقة بالعرش تقول وتنادي اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني ﴿إن الله كان عليكم رقيبا﴾ أي حافظا عن مجاهد وقيل الرقيب العالم عن ابن زيد والمعنى متقارب وإنما أتى بلفظة كان المفيدة للماضي لأنه أراد أنه كان حفيظا على من تقدم زمانه من عهد آدم وولده إلى زمان المخاطبين وعالما بما صدر منهم لم يعزب عنه من ذلك شيء.