الآيات 161-163

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿161﴾ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿162﴾ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴿163﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وأهل الكوفة ﴿قيما﴾ مكسورة القاف خفيفة الياء والباقون قيما مفتوحة القاف مشددة الياء وقرأ أهل المدينة محياي ساكنة الياء ومماتي بفتحها والباقون ﴿محياي﴾ بفتح الياء و﴿ مماتي﴾ ساكنة الياء.

الحجة:

من قرأ قيما فالقيم هو المستقيم فيكون وصفا للدين كما أن التقدير في قوله دين القيمة دين الملة القيمة لأن الملة هي مثل الدين ومن قرأ قيما فإنه مصدر كالصغر والكبر إلا أنه لم يصحح كما صحح حول وعوض وكان القياس ولكنه شذ كما شذ نحو ثيرة في جمع ثور وجياد في جمع جواد وكان القياس الواو وقال الزجاج إنما اعتل قيم لأنه من قام فلما اعتل قام اعتل قيم لأنه جرى عليه وأما حول فإنه جار على غير فعل وأما إسكان الياء في محياي فإنه شاذ عن القياس والاستعمال فإن الساكنين لا يلتقيان على هذا الحد وإذا كان ما قبلها متحركا نحو ومماتي فالفتح جائز والإسكان جائز قال أبو علي والوجه في محياي بسكون الياء مع شذوذه ما حكى عن بعض البغداديين أنه سمع التقت حلقتا البطان بإسكان الألف مع سكون لام المعرفة ومثل هذا ما جوزه يونس في قوله أضربان زيد وأضربنان زيدا وسيبويه ينكر هذا من قول يونس وقال علي بن عيسى ولو وصله على نية الوقف جاز كما فبهداهم اقتده فإنما هذه الهاء في الوقف كما تسكن تلك الياء في الوقف.

اللغة:

الملة الشريعة مأخوذة من الإملاء كأنه ما يأتي به الشرع ويورده الرسول من الشرائع المتجددة فيمله على أمته ليكتب أو يحفظ فأما التوحيد والعدل فواجبان بالعقل ولا يكون فيهما اختلاف والشرائع تختلف ولهذا يجوز أن يقال ديني دين الملائكة ولا يقال ملتي ملة الملائكة فكل ملة دين وليس كل دين ملة والنسك العبادة ورجل ناسك ومنه النسيكة الذبيحة والمنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك قال الزجاج فالنسك كل ما تقرب به إلى الله تعالى إلا أن الغالب عليه أمر الذبح وقول الناس فلان ناسك ليس يراد به ذبح إنما يراد به أنه يؤدي المناسك أي يؤدي ما افترض عليه مما يتقرب به إلى الله.

الإعراب:

دينا قال أبو علي يحتمل نصبه ثلاثة أضرب أحدها أنه لما قال هداني ربي إلى صراط مستقيم استغنى بجري ذكر الفعل عن ذكره ثانيا فقال دينا قيما كما قال اهدنا الصراط المستقيم وإن شئت نصبته على اعرفوا لأن هدايتهم إليه تعريف لهم فحمله على اعرفوا دينا قيما وإن شئت حملته على الاتباع كأنه قال اتبعوا دينا قيما والزموه كما قال اتبعوا ما أنزل إليكم قال الزجاج ملة إبراهيم بدل من دينا قيما وحنيفا منصوب على الحال من إبراهيم والمعنى هداني وعرفني ملة إبراهيم في حال حنيفية.

المعنى:

ثم أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال ﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء الكفار وللخلق جميعا ﴿إنني هداني﴾ أي دلني وأرشدني ﴿ربي إلى صراط مستقيم﴾ وقيل أراد لطف لي ربي في الاهتداء ووفقني لذلك وقد بينا معنى الصراط المستقيم في سورة الحمد ﴿دينا قيما﴾ أي مستقيما على نهاية الاستقامة وقيل دائما لا ينسخ ﴿ملة إبراهيم﴾ وإنما وصف دين النبي بأنه ملة إبراهيم ترغيبا فيه للعرب لجلالة إبراهيم في نفوسها ونفوس كل أهل الأديان ولانتساب العرب إليه واتفاقهم على أنه كان على الحق ﴿حنيفا﴾ أي مخلصا في العبادة لله عن الحسن وقيل مائلا إلى الإسلام ميلا لازما لا رجوع معه من قولهم رجل أحنف إذا كان مائل القدم من خلقة عن الزجاج وقيل مستقيما وإنما جاء أحنف على التفاؤل عن الجبائي ﴿وما كان من المشركين﴾ يعني إبراهيم كان يدعو إلى عبادة الله وينهى عن عبادة الأصنام ﴿قل إن صلاتي﴾ قد فسرنا معنى الصلاة فيما تقدم ﴿ونسكي﴾ أي ذبيحتي للحج والعمرة عن سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي وقيل نسكي ديني عن الحسن وقيل عبادتي عن الجبائي والزجاج وإنما ضم الصلاة إلى أصل الواجبات من التوحيد والعدل لأن فيها التعظيم لله عند التكبير وفيها تلاوة القرآن الذي يدعو إلى كل بر وفيها الركوع والسجود وفيها الخضوع لله تعالى والتسبيح الذي هو التنزيه له ﴿ومحياي ومماتي﴾ أي حياتي وموتي ﴿لله رب العالمين﴾ وإنما جمع بين صلاته وحياته وأحدهما من فعله والآخر من فعل الله لأنهما جميعا بتدبير الله وقيل معناه صلاتي ونسكي له عبادة وحياتي ومماتي له ملكا وقدرة عن القاضي وقيل إن عبادتي له لأنها بهدايته ولطفه ومحياي ومماتي له لأنه بتدبيره وخلقه وقيل معنى قوله ﴿ومحياي ومماتي لله﴾ أن الأعمال الصالحة التي تتعلق بالحياة في فنون الطاعات وما يتعلق بالممات من الوصية والختم بالخيرات لله وفيه تنبيه على أنه لا ينبغي أن يجعل الإنسان حياته لشهوته ومماته لورثته ﴿لا شريك له﴾ أي لا ثاني له في الإلهية وقيل لا شريك له في العبادة وفي الإحياء والإماتة ﴿وبذلك أمرت﴾ أي وبهذا أمرني ربي ﴿وأنا أول المسلمين﴾ من هذه الأمة فإن إبراهيم كان أول المسلمين ومن بعده تابع له في الإسلام عن الحسن وقتادة وفيه بيان فضل الإسلام وبيان وجوب اتباعه على الإسلام إذ كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) أول من سارع إليه ولأنه إنما أمر بذلك ليتأسى به ويقتدي بفعله.