الآيات 152-153

وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿152﴾ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿153﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر تذكرون بتخفيف الذال حيث وقع والباقون بالتشديد وقرأ أهل الكوفة غير عاصم وإن هذا بكسر الهمزة والباقون بفتحها وكلهم شدد النون إلا ابن عامر ويعقوب فإنهما قرءا إن بالتخفيف وكلهم سكن الياء من صراطي إلا ابن عامر فإنه فتحها وقرأ ابن عامر وابن كثير سراطي بالسين وقرأ حمزة بين الصاد والزاي.

الحجة:

القراءتان في تذكرون متقاربتان والأصل تتذكرون فمن حفف حذف التاء الأولى ومن شدد أدغم التاء الثانية في الذال وأما من فتح وإن هذا فإنه حملها على فاتبعوه على قياس قول سيبويه في قوله تعالى لإيلاف قريش وقوله وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون وقوله وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا فيكون على تقدير ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ومن خفف فقال وأن هذا فإن الخفيفة في قوله يتعلق بما يتعلق به الشديدة وموضع هذا رفع بالابتداء وخبره صراطي وفي أن ضمير القصة والحديث وعلى هذه الشريطة يخفف وليست المفتوحة كالمكسورة إذا خففت وعلى هذا قول الأعشى:

في فتية كسيوف الهند قد علموا

إن هالك كل من يحفى وينتعل

والفاء التي في قوله ﴿فاتبعوه﴾ على قول من كسر إن عاطفة جملة على جملة وعلى قول من فتح أن زائدة.

اللغة:

الأشد واحدها شد مثل الأشر في جمع شر والأضر في جمع ضر والشد القوة وهو استحكام قوة الشباب والسن كما أن شد النهار هو ارتفاعه قال عنترة:

عهدي به شد النهار كأنما

خضب البنان ورأسه بالعظلم

وقيل هو جمع شدة مثل نعمة وأنعم وقال بعض البصريين الأشد واحد فيكون مثل الآنك قال سيبويه الذكر والذكر بمعنى وذكر فعل يتعدى إلى مفعول واحد فإذا ضاعفت العين يعدى إلى مفعولين كما في قوله:

يذكرنيك حنين العجول

ونوح الحمامة تدعو هديلا

ويقول ذكره فتذكر فتفعل مطاوع فعل كما أن تفاعل مطاوع فاعل.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه تمام ما يتلو عليهم فقال ﴿ولا تقربوا مال اليتيم﴾ والمراد بالقرب التصرف فيه وإنما خص مال اليتيم بالذكر لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه ولا عن ماله فيكون الطمع في ماله أشد ويد الرغبة إليه أمد فأكد سبحانه النهي عن التصرف في ماله وإن كان ذلك واجبا في مال كل أحد ﴿إلا بالتي هي أحسن﴾ أي بالخصلة أو الطريقة الحسنى ولذلك أنث وقد قيل في معناه أقوال (أحدها) أن معناه إلا بتثمير ماله بالتجارة عن مجاهد والضحاك والسدي (وثانيها) بأن يأخذ القيم عليه بالأكل بالمعروف دون الكسوة عن ابن زيد والجبائي (وثالثها) بأن يحفظ عليه حتى يكبر ﴿حتى يبلغ أشده﴾ اختلف في معناه فقيل أنه بلوغ الحلم عن الشعبي وقيل هو أن يبلغ ثماني عشرة سنة وقال السدي هو أن يبلغ ثلاثين سنة ثم نسخها قوله حتى إذا بلغوا النكاح الآية وقال أبو حنيفة إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع المال إليه وقبل ذلك يمنع منه إذا لم يؤنس منه الرشد وقيل إنه لا حد له بل هو أن يبلغ ويكمل عقله ويؤنس منه الرشد فيسلم إليه ماله وهذا أقوى الوجوه وليس بلوغ اليتيم أشده مما يبيح قرب ماله بغير الأحسن ولكن تقديره ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده فادفعوا إليه بدليل قوله ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ﴿وأوفوا﴾ أي أتموا ﴿الكيل والميزان بالقسط﴾ أي بالعدل والوفاء من غير بخس ﴿لا نكلف نفسا إلا وسعها﴾ أي إلا ما يسعها ولا يضيق عنه ومعناه هنا أنه لما كان التعديل في الوزن والكيل على التحديد من أقل القليل بتعذر بين سبحانه أنه لا يلزم في ذلك إلا الاجتهاد في التحرز من النقصان ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى﴾ أي فقولوا الحق وإن كان على ذي قرابة لكم وإنما خص القول بالعدل دون الفعل لأن من جعل عادته العدل في القول دعاه ذلك إلى العدل في الفعل ويكون ذلك من آكد الدواعي إليه وقيل معناه إذا شهدتم أو حكمتم فاعدلوا في الشهادة والحكم وإن كان المقول عليه أو المشهود له أو عليه قرابتك وهذا من الأوامر البليغة التي يدخل فيها مع قلة حروفها الأقارير والشهادات والوصايا والفتاوى والقضايا والأحكام والمذاهب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿وبعهد الله أوفوا﴾ قيل في معنى عهد الله قولان (أحدهما) أن كل ما أوجبه الله تعالى على العباد فقد عهد إليهم بإيجابه عليهم وبتقديم القول فيه والدلالة عليه (والآخر) أن المراد به النذور والعهود في غير معصية الله تعالى والمراد أوفوا بما عاهدتم الله عليه من ذلك ﴿ذلكم﴾ أي ذلك الذي تقدم ذكره من ذكر مال اليتيم وأن لا يقرب إلا بالحق وإيفاء الكيل واجتناب البخس والتطفيف وتحري الحق فيه على مقدار الطاقة والقول بالحق والصدق والوفاء بالعهد ﴿وصاكم﴾ الله سبحانه ﴿به لعلكم تذكرون﴾ أي لكي تتذكروه وتأخذوا به فلا تطرحوه ولا تغفلوا عنه فتتركوا العمل به والقيام بما يلزمكم منه ﴿وأن هذا صراطي﴾ أي ولأن هذا صراطي ومن خفف فتقديره ولأنه هذا صراطي ومن كسر أن فإنه استأنف قال ابن عباس يريد أن هذا ديني دين الحنيفية أقوم الأديان وأحسنها وقيل يريدان ما ذكر في هذه الآيات من الواجب والمحرم صراطي لأن امتثال ذلك على ما أمر به يؤدي إلى الثواب والجنة فهو طريق إليها وإلى النعيم فيها ﴿مستقيما﴾ أي فيما لا عوج فيه ولا تناقض وهو منصوب على الحال ﴿فاتبعوه﴾ أي اقتدوا به واعملوا به واعتقدوا صحته وأحلوا حلاله وحرموا حرامه ﴿ولا تتبعوا السبل﴾ أي طرق الكفر والبدع والشبهات عن مجاهد وقيل يريد اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان عن ابن عباس ﴿فتفرق﴾ وأصله فتتفرق ﴿بكم عن سبيله﴾ أي فتشتت وتميل وتخالف بكم عن دينه الذي ارتضى وبه أوصى وقيل عن طريق الدين ﴿ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون﴾ أي لكي تتقوا عقابه باجتناب معاصيه قال ابن عباس هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب وهي محرمات على بني آدم كلهم وهم أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار وقال كعب الأحبار والذي نفس كعب بيده إن هذا لأول شيء في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآيات.