الآيات 148-150

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ﴿148﴾ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿149﴾ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿150﴾

اللغة:

هلم قال الزجاج أنها هاء ضمت إليها لم وجعلتا كالكلمة الواحدة فأكثر اللغات أن يقال هلم للواحد والاثنين والجماعة بذلك جاء القرآن نحو قوله هلم إلينا ومعنى ﴿هلم شهداءكم﴾ هاتوا شهداءكم ومن العرب من يثني ويجمع ويؤنث فيقول للمذكر هلم وللاثنين هلما وللجماعة هلموا وللمؤنث هلمي وللنسوة هلممن وفتحت لأنها مدغمة كما فتحت رديا هذا في الأمر لالتقاء الساكنين ولا يجوز فيها هلم للواحد بالضم كما يجوز في رد الفتح والضم والكسر لأنها لا تتصرف قال أبو علي هي في اللغة الأولى بمنزلة رويد وصه ومه ونحو ذلك من الأسماء التي سميت بها الأفعال وفي الأخرى بمنزلة رد في ظهور علامات الفاعلين فيها كما يظهر في رد وأما هاء اللاحق بها فهي التي للتنبيه لحقت أولا لأن لفظ الأمر قد يحتاج إلى استعطاف المأمور به واستدعاء إقباله على الأمر فهو لذلك يقرب من المنادى ومن ثم دخل حرف التنبيه في الأيا اسجدوا ألا ترى أنه أمر كما أن هذا أمر وقد دخل في جمل أخر نحو ها أنتم هؤلاء فكما دخل في هذه المواضع كذلك لحقت في لم إلا أنه كثر الاستعمال معها فغير بالحذف لكثرة الاستعمال كأشياء تغير لذلك نحو لم أبل ولم أدر وما أشبه ذلك مما يغير للكثرة.

المعنى:

لما تقدم الرد على المشركين لاعتقاداتهم الباطلة رد عليهم سبحانه هنا مقالتهم الفاسدة فقال ﴿سيقول الذين أشركوا﴾ أي سيحتج هؤلاء المشركين في إقامتهم على شركهم وفي تحريمهم ما أحل الله تعالى بأن يقولوا ﴿لو شاء الله ما أشركنا﴾ أي لو شاء الله أن لا نعتقد الشرك ولا نفعل التحريم ﴿ولا آباؤنا﴾ وأراد منا خلاف ذلك ما أشركنا ولا آباؤنا ﴿ولا حرمنا من شيء﴾ أي شيئا من ذلك ثم كذبهم الله تعالى في ذلك بقوله ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا التكذيب الذي كان من هؤلاء في أنه منكر ﴿كذب الذين من قبلهم﴾ وإنما قال كذب بالتشديد لأنهم بهذا القول كذبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قوله لهم أن الله سبحانه أمركم بتوحيده وترك الإشراك به وترك التحريم لهذه الأنعام فكانوا بقولهم إن الله تعالى أراد منا ذلك وشاءه ولو أراد غيره ما فعلناه مكذبين للرسول ع كما كذب من تقدمهم أنبياءهم فيما أتوا به من قبل الله تعالى ﴿حتى ذاقوا بأسنا﴾ أي حتى نالوا عذابنا وقيل معناه حتى أصابوا العذاب المعجل ودل ذلك على أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى لأن الذوق أول إدراك الشيء ﴿قل﴾ يا محمد لهم جوابا عما قالوه من أن الشرك بمشيئة الله تعالى ﴿هل عندكم من علم﴾ أي حجة تؤدي إلى علم وقيل معناه هل عندكم علم فيما تقولونه ﴿فتخرجوه لنا﴾ أي فتخرجوا ذلك العلم أو تلك الحجة لنا بين سبحانه بهذا أنه ليس عندهم علم ولا حجة فيما يضيفونه إلى الله تعالى وإن ما قالوه باطل ثم أكد سبحانه الرد عليهم وتكذيبهم في مقالتهم بقوله ﴿إن تتبعون إلا الظن﴾ أي ما تتبعون فيما تقولونه إلا الظن والتخمين ﴿وإن أنتم إلا تخرصون﴾ أي إلا تكذبون في هذه المقالة على الله تعالى وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله سبحانه لا يشاء المعاصي والكفر وتكذيب ظاهر لمن أضاف ذلك إلى الله سبحانه هذا مع قيام الأدلة العقلية التي لا يدخلها التأويل على أنه سبحانه يتعالى عن إرادة القبيح وجميع صفات النقص علوا كبيرا ﴿قل﴾ يا محمد إذا عجز هؤلاء عن إقامة حجة على ما قالوه ﴿فلله الحجة البالغة﴾ والحجة البينة الصحيحة المصححة للأحكام وهي التي تقصد إلى الحكم بشهادته مأخوذة من حج إذا قصد والبالغة هي التي تبلغ قطع عذر المحجوج بأن تزيل كل لبس وشبهة عمن نظر فيها واستدل بها وإنما كانت حجة الله صحيحة بالغة لأنه لا يحتج إلا بالحق وبما يؤدي إلى العلم ﴿فلو شاء لهداكم أجمعين﴾ أي لو شاء لألجأكم إلى الإيمان وهداكم جميعا إليه بفعل الإلجاء إلا أنه لم يفعل ذلك وإن كان فعله حسنا لأن الإلجاء ينافي التكليف وهذه المشيئة بخلاف المشيئة المذكورة في الآية الأولى لأن الله تعالى أثبت هذه ونفي تلك وذلك لا يستقيم إلا على الوجه الذي ذكرناه فالأولى مشيئة الاختيار والثانية مشيئة الإلجاء وقيل أن المراد أنه لو شاء لهداكم إلى نيل الثواب ودخول الجنة ابتداء من غير تكليف ولكنه سبحانه لم يفعل ذلك بل كلفكم وعرضكم للثواب الذي لا يحسن الابتداء بمثله ولو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر من أن الله سبحانه شاء منهم الكفر لكانت الحجة للكفار على الله تعالى من حيث فعلوا ما شاء الله تعالى ولكانوا بذلك مطيعين له لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد ولا يكون الحجة لله تعالى عليهم على قولهم من حيث أنه خلق فيهم الكفر وأراد منهم الكفر فأي حجة له عليهم مع ذلك ثم بين سبحانه أن الطريق الموصل إلى صحة مذاهبهم مفسد غير ثابت من جهة حجة عقلية ولا سمعية وما هذه صفته فهو فاسد لا محالة فقال ﴿قل﴾ يا محمد لهم ﴿هلم شهداءكم﴾ أي أحضروا وهاتوا شهداءكم ﴿الذين يشهدون﴾ بصحة ما تدعونه من ﴿أن الله حرم هذا﴾ أي هذا الذي ذكر مما حرمه المشركون من البحيرة والسائبة والوصيلة والحرث والأنعام وغيرها ﴿فإن شهدوا فلا تشهد معهم﴾ معناه فإن لم يجدوا شاهدا يشهد لهم على تحريمها غيرهم فشهدوا بأنفسهم فلا تشهد أنت معهم وإنما نهاه عن الشهادة معهم لأن شهادتهم تكون شهادة بالباطل فإن قيل كيف دعاهم إلى الشهادة ثم قال فلا تشهد معهم فالجواب أنه أمرهم أن يأتوا بالعدول الذين يشهدون بالحق فإذا لم يجدوا ذلك وشهدوا لأنفسهم فلا ينبغي أن تقبل شهادتهم أو تشهد معهم لأنها ترجع إلى دعوى مجردة بعيدة من الصواب وقيل أنه سبحانه أراد هاتوا شهداء من غيركم ولم يكن أحد غير العرب يشهد على ذلك لأنه كان للعرب شرائع شرعوها لأنفسهم ﴿ولا تتبع أهواء الذين كذبوا ب آياتنا﴾ الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد أمته أي لا تعتقد مذهب من اعتقد مذهبه هوى ويمكن أن يتخذ الإنسان المذهب هوى من وجوه منها أن يهوى من سبق إليه فيقلده فيه ومنها أن يدخل عليه شبهة فيتخيله بصورة الصحيح مع أن في عقله ما يمنع منها ومنها أن يقطع النظر دون غايته للمشقة التي تلحقه فيعتقد المذهب الفاسد ومنها أن يكون نشأ على شيء وألفه واعتاده فيصعب عليه مفارقته وكل ذلك متميز مما استحسنه بعقله ﴿والذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ أي ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة إنما ذكر الفريقين وإن كانوا كلهم كفارا ليفصل وجوه كفرهم لأن منه ما يكون مع الإقرار بالآخرة كحال أهل الكتاب ومنه ما يكون مع الإنكار كحال عبدة الأوثان ﴿وهم بربهم يعدلون﴾ أي يجعلون له عدلا وهو المثل وفي الآية دلالة على فساد التقليد لأنه سبحانه طالب الكفار على صحة مذهبهم وجعل عجزهم عن الإتيان بها دلالة على بطلان قولهم وأيضا فإنه سبحانه أوجب اتباع الدليل دون اتباع الهوى.