الآيات 76-80

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿76﴾ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿77﴾ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴿78﴾ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴿79﴾ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴿80﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص عن عاصم وروح وزيد عن يعقوب ﴿لتحصنكم﴾ بالتاء وقرأ أبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب لنحصنكم بالنون والباقون ليحصنكم بالياء.

الحجة:

من قرأ بالياء فيجوز أن يكون الفاعل اسم الله لتقدم قوله ﴿علمناه﴾ ويجوز أن يكون اللباس لأن اللبوس بمعنى اللباس ويجوز أن يكون داود ومن قرأ بالتاء حمله على المعنى لأنه الدرع مؤنث ومن قرأ بالنون فلتقدم قوله علمناه.

اللغة:

النفش بفتح الفاء وسكونها أن تنتشر الإبل والغنم بالليل فترعى بلا راع وإبل نفاش واللبوس اسم للسلاح كله عند العرب درعا أو جوشنا أو سيفا أو رمحا قال الهذلي يصف رمحا:

ومعي لبوس للبئيس كأنه

روق بجبهة ذي نعاج مجفل

وقيل هو كل ما يلبس من ثياب ودرع وقيل هو الدرع وأصل اللباس من الاختلاط ومنه سميت المرأة لباسا وسمي الليل لباسا لأنه يباشر الناس بظلمته والإحصان الإحراز وأصله من المنع.

الإعراب:

ونوحا معطوف على قوله ﴿إذ نفشت﴾ ظرف لقوله ﴿يحكمان﴾ وقوله ﴿وكنا لحكمهم شاهدين﴾ يجوز أن يكون في موضع الجر بالعطف على ﴿يحكمان﴾ أي وقت حكمهما في الحرث وكوننا شاهدين له ويجوز أن يكون في موضع النصب على الحال وكلا منصوب لأنه مفعول أول لآتينا و﴿حكما﴾ مفعول ثان له ﴿يسبحن﴾ في موضع نصب على الحال من الجبال ﴿والطير﴾ عطف على الجبال ويجوز أن يكون مفعولا معه وتقديره يسبحن مع الطير فيكون الواو بمعنى مع.

المعنى:

ثم عطف سبحانه قصة نوح وداود على قصة إبراهيم (عليه السلام) ولوط فقال ﴿ونوحا إذ نادى﴾ أي دعا ربه فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا وقال إني مغلوب فانتصر وغير ذلك ﴿من قبل﴾ أي من قبل إبراهيم ولوط ﴿فاستجبنا له﴾ أي أجبناه إلى ما التمسه ﴿فنجيناه وأهله من الكرب العظيم﴾ أي من الغم الذي يصل حره إلى القلب وهو ما كان يلقاه من الأذى طول تلك المدة وتحمل الاستخفاف من السقاط من أعظم الكرب ﴿ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا﴾ أي منعناه منهم بالنصرة حتى لم يصلوا إليه بسوء وقيل معناه نصرناه على القوم ومن بمعنى على عن أبي عبيدة ﴿إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين﴾ صغارهم وكبارهم وذكورهم وإناثهم ﴿وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم﴾ أي وآتينا داود وسليمان حكما وعلما إذ يحكمان وقيل تقديره واذكر داود وسليمان حين يحكمان في الحرث في الوقت الذي نفشت فيه غنم القوم أي تفرقت ليلا ﴿وكنا لحكمهم شاهدين﴾ أي بحكمهم عالمين لم يغب عنا منه شيء وإنما جمع في موضع التثنية لإضافة الحكم إلى الحاكم وإلى المحكوم لهم وقيل لأن الاثنين جمع فهو مثل قوله ﴿إن كان له إخوة﴾ وهو يريد أخوين واختلف في الحكم الذي حكما به فقيل أنه زرع وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته عن قتادة وقيل كان كرما وقد بدت عناقيده فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان غير هذا يا نبي الله قال وما ذاك قال يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله عن ابن مسعود وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وقال الجبائي أوحى الله تعالى إلى سليمان بما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل ولم يكن ذلك عن اجتهاد لأنه لا يجوز للأنبياء أن يحكموا بالاجتهاد وهذا هو الصحيح المعول عليه عندنا وقال علي بن عيسى والبلخي يجوز أن يكون ذلك عن اجتهاد لأن رأي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من رأي غيره فإذا جاز التعبد بالتزام حكم غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق الاجتهاد فكيف يمنع من حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا الوجه والذي يدل على صحة القول الأول أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان يوحى إليه وله طريق إلى العلم بالحكم فلا يجوز أن يحكم بالظن على أن الحكم بالظن والاجتهاد والقياس قد بين أصحابنا في كتبهم أنه لم يتعبد بها في الشرع إلا في مواضع مخصوصة ورد النص بجواز ذلك فيها نحو قيم المتلفات وأروش الجنايات وجزاء الصيد والقبلة وما جرى هذا المجرى وأيضا فلو جاز للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجتهد لجاز لغيره أن يخالفه كما يجوز للمجتهدين أن يختلفا ومخالفة الأنبياء تكون كفرا هذا وقد قال الله سبحانه ﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾ فأخبر سبحانه أنه إنما ينطق عن جهة الوحي ويقوي ما ذكرناه قوله تعالى ﴿ففهمناها سليمان﴾ أي علمناه الحكومة في ذلك وقيل إن سليمان قضى بذلك وهو ابن إحدى عشر سنة وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهارا ﴿وكلا آتينا حكما وعلما﴾ أي وكل واحد من داود وسليمان أعطيناه حكمة وقيل معناه النبوة وعلم الدين والشرع ﴿وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير﴾ قيل معناه سيرنا الجبال مع داود حيث سار فعبر عن ذلك بالتسبيح لما فيه من الآية العظيمة التي تدعو إلى تسبيح الله وتعظيمه وتنزيهه عن كل ما لا يليق به وكذلك تسخير الطير له تسبيح يدل على إن مسخرها قادر لا يجوز عليه مما يجوز على العباد عن الجبائي وعلي بن عيسى وقيل إن الجبال كانت تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير يسبح معه بالغداة والعشي معجزة له عن وهب ﴿وكنا فاعلين﴾ أي قادرين على فعل هذه الأشياء ففعلناها دلالة على نبوته ﴿وعلمناه صنعة لبوس لكم﴾ أي علمناه كيف يصنع الدرع قال قتادة أول من صنع الدرع داود (عليه السلام) وإنما كانت صفائح جعل الله سبحانه الحديد في يده كالعجين فهو أول من سردها وحلقها فجمعت الخفة والتحصين وهو قوله ﴿لتحصنكم من بأسكم﴾ أي ليحرزكم ويمنعكم من وقع السلاح فيكم عن السدي وقيل معناه من حربكم أي في حالة الحرب والقتال فإن البأس في اللغة هو شدة القتال ﴿فهل أنتم شاكرون﴾ لنعم الله تعالى عليكم وعلى أنبيائه قبلكم وهذا تقرير للخلق على شكره فإن إنعامه على الأنبياء إنعام على الخلق وقيل إن سبب إلانة الحديد لداود (عليه السلام) أنه كان نبيا ملكا وكان يطوف في ولايته متنكرا يتعرف أحوال عماله ومتصرفيه فاستقبله جبرائيل ذات يوم على صورة آدمي فسلم عليه فرد عليه السلام وقال ما سيرة داود فقال نعمت السيرة لو لا خصلة فيه قال وما هي قال أنه يأكل من بيت مال المسلمين فتنكره وأثنى عليه وقال لقد أقسم داود أنه لا يأكل من بيت مال المسلمين فعلم الله سبحانه صدقه فألان له الحديد كما قال وألنا له الحديد وروي أن لقمان الحكيم حضره فرآه يفعل ذلك فصبر ولم يسأله حتى فرغ من ذلك فقام ولبس وقال نعمت الجنة للحرب فقال لقمان الصمت حكمة وقليل فاعله.