الآيات 130-132

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ﴿130﴾ ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴿131﴾ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿132﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر عما تعملون بالتاء والباقون بالياء.

اللغة:

الغفلة عن المعنى والسهو عنه والعزوب عنه نظائر وضد الغفلة اليقظة وضد السهو الذكر وضد العزوب الحضور.

الإعراب:

موضع ﴿ذلك﴾ يحتمل أن يكون رفعا على تقدير الأمر ذلك ويحتمل أن يكون نصبا على تقدير فعلنا ذلك وإن لم يكن أن هذه هي المخففة من الثقيلة وتقديره لأنه لم يكن كما في قول الشاعر:

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كل من يحفى وينتعل وأن المفتوحة لا بد لها من إضمار الهاء لأنه لا معنى لها في الابتداء وإنما هي بمعنى المصدر المبني على غيره والمكسورة لا تحتاج إلى الهاء لأنها تصح أن تكون حرفا من حروف الابتداء فلا يحتاج إلى إضمار وإنما لم يبن كل إذا حذف منه المضاف إليه كما بني قبل وبعد لأن ما حذف منه المضاف إليه مثل قبل وبعد لم يكن في حال الإعراب على التمكن التام فإنه لا يدخله الرفع في تلك الحال فلما انضاف إلى ذلك نقصان التمكن بحذف المضاف إليه أخرج إلى البناء وليس كذلك كل لأنه متمكن على كل حال فلذلك لم يبن.

المعنى:

ثم بين عز وجل تمام ما يخاطب به الجن والإنس يوم القيامة بأن يقول ﴿يا معشر الجن والإنس﴾ والمعشر الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العرة لأنها تمام العقد ﴿ألم يأتكم رسل منكم﴾ هذا احتجاج عليهم بأن بعث إليهم الرسل إعذارا وإنذارا وتأكيدا للحجة عليهم وأما قوله ﴿منكم﴾ وإن كان خطابا لجميعهم والرسل من الإنس خاصة فإنه يحتمل أن يكون لتغليب أحدهما على الآخر كما قال تعالى ﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ وإن كان اللؤلؤ يخرج من الملح دون العذب وكما يقال أكلت الخبز واللبن وإنما يؤكل الخبز ويشرب اللبن وهو قول أكثر المفسرين والزجاج والرماني وقيل إنه أرسل رسل إلى الجن كما أرسل إلى الإنس عن الضحاك وقال الكلبي كان الرسل يرسلون إلى الإنس ثم بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى الإنس والجن وقال ابن عباس إنما بعث الرسول من الإنس ثم كان يرسل هو إلى الجن رسولا من الجن وقال مجاهد الرسل من الإنس والنذر من الجن ﴿يقصون﴾ أي يتلون ويقرءون ﴿عليكم آياتي﴾ أي حجبي ودلائلي وبيناتي ﴿وينذرونكم﴾ أي يخوفونكم ﴿لقاء يومكم هذا﴾ أي لقاء ما تستحقونه من العقاب في هذا اليوم وحصولكم فيه يعني يوم القيامة ﴿قالوا شهدنا على أنفسنا﴾ بالكفر والعصيان في حال التكليف ولزوم الحجة وانقطاع المعذرة واعترافنا بذلك ﴿وغرتهم الحياة الدنيا﴾ أي تزينت لهم بظاهرها حتى اغتروا بها ﴿وشهدوا على أنفسهم﴾ في الآخرة ﴿أنهم كانوا كافرين﴾ في الدنيا أي أقروا بذلك وشهدوا باستحقاقهم العقاب ﴿ذلك﴾ حكم الله تعالى ﴿أن لم يكن ربك﴾ أي لأنه لم يكن ربك ﴿مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون﴾ وهذا يجري مجرى التعليل أي لأجل أنه لم يكن الله تعالى ليهلك أهل القرى بظلم يكون منهم حتى يبعث إليهم رسلا ينبهونهم على حجج الله تعالى ويزجرونهم ويذكرونهم ولا يؤاخذهم بغتة وهذا إنما يكون منه تعالى على وجه الاستظهار في الحجة دون أن يكون ذلك واجبا لأن ما فعلوه من الظلم قد استحقوا به العقاب وقيل معناه أنه تعالى لا يهلكهم بظلم منه على غفلة منهم من غير تنبيه وتذكير عن الفراء والجبائي ومثله قوله وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون وفي هذا دلالة واضحة على أنه تعالى منزه عن الظلم ولو كان الظلم من خلقه لما صح تنزهه تعالى عنه ﴿ولكل﴾ أي ولكل عامل طاعة أو معصية ﴿درجات مما عملوا﴾ أي مراتب في عمله على حسب ما يستحقه فيجازى عليه إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر وإنما سميت درجات لتفاضلها كتفاضل الدرج في الارتفاع والانحطاط وإنما يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدرج وعن تفاضل أهل النار بالدرك إلا أنه لما جمع بينهم عبر عن تفاضلهم بالدرج تغليبا لصفة أهل الجنة ﴿وما ربك﴾ يا محمد أو أيها السامع ﴿بغافل﴾ أي ساه ﴿عما يعملون﴾ أي لا يشذ شيء من ذلك عن عمله فيجازيهم على حسب ما يستحقونه من الجزاء وفي هذا تنبيه وتذكير للخلق في كل أمورهم.