الآيات 122-123

أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿122﴾ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿123﴾

القراءة:

قرأ أهل المدينة ويعقوب ميتا بالتشديد والباقون بالتخفيف.

الحجة:

قال أبو عبيدة الميتة تخفيف ميتة ومعناهما واحد قال أبو الرعلاء الغساني:

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميت الأحياء

إنما الميت من يعيش كئيبا

كاسفا باله قليل الرجاء والمحذوف من الياءين الثانية المنقلبة عن الواو وأعلت بالحذف كما أعلت بالقلب.

اللغة:

الأكابر جمع الأكبر وقد قالوا الأكابرة والأصاغرة كما قالوا الأساورة والأحامرة قال الشاعر:

إن الأحامرة الثلاثة أهلكت

ما لي وكنت بهن قدما مولعا

الخمر واللحم السمين أحبه

والزعفران وقد أبيت مردعا وأصل المكر الفتل ومنه جارية ممكورة أي مفتلة البدن فكان المكر معناه الفتل إلى خلاف الرشد.

الإعراب:

﴿أو من﴾ هذه همزة الاستفهام دخلت على واو العطف وهو استفهام يراد به التقرير وموضع الكاف في قوله ﴿وكذلك جعلنا﴾ نصب معطوفة على ما قبلها وهو قوله ﴿كذلك زين للكافرين﴾ مجرميها يجوز أن يكون منصوبا على التقديم والتأخير تقديره جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ويجوز أن يكون منصوبا بإضافة أكابر إليه.

النزول:

الآية الأولى قيل أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام وذلك أن أبا جهل آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأخبر بذلك حمزة وهو على دين قومه فغضب وجاء ومعه قوس فضرب بها رأس أبي جهل وآمن عن ابن عباس وقيل إنها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل عن عكرمة وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وقيل نزلت في عمر بن الخطاب عن الضحاك وقيل أنها عامة في كل مؤمن وكافر عن الحسن وجماعة وهذا أولى لأنه أعم فائدة فيدخل فيه جميع الأقوال المذكورة.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه مثل الفريقين فقال ﴿أو من كان ميتا فأحييناه﴾ أي كافرا فأحييناه بأن هديناه إلى الإيمان عن ابن عباس والحسن ومجاهد شبه سبحانه الكفر بالموت والإيمان بالحياة وقيل معناه من كان نطفة فأحييناه كقوله وكنتم أمواتا فأحياكم ﴿وجعلنا له نورا يمشي به في الناس﴾ قيل فيه وجوه (أحدها) أن المراد بالنور العلم والحكمة سمى سبحانه ذلك نورا والجهل ظلمة لأن العلم يهتدى به إلى الرشاد كما يهتدى بالنور في الطرقات (وثانيها) أن المراد بالنور هنا القرآن عن مجاهد (وثالثها) أن المراد به الإيمان عن ابن عباس ﴿كمن مثله في الظلمات﴾ لم يقل سبحانه كمن هو في الظلمات تقديره كمن مثله مثل من هو في الظلمات يعني به الكافر الذي هو في ظلمة الكفر وقيل معناه كمن هو في ظلمات الكفر ﴿ليس بخارج منها﴾ لكنه ذكره بلفظ المثل ليبين أنه بلغ في الكفر والحيرة غاية يضرب به المثل فيها وإنما سمى الله تعالى الكافر ميتا لأنه لا ينتفع بحياته ولا ينتفع غيره بحياته فهو أسوء حالا من الميت إذ لا يوجد من الميت ما يعاقب عليه ولا يتضرر غيره به وسمي المؤمن حيا لأن له ولغيره المصلحة والمنفعة في حياته وكذلك سمي الكافر ميتا والمؤمن حيا في عدة مواضع مثل قوله ﴿إنك لا تسمع الموتى﴾ و﴿لينذر من كان حيا﴾ وقوله ﴿وما يستوي الأحياء ولا الأموات﴾ وسمي القرآن والإيمان والعلم نورا لأن الناس يبصرون بذلك ويهتدون به من ظلمات الكفر وحيرة الضلالة كما يهتدي بسائر الأنوار وسمي الكفر ظلمة لأن الكافر لا يهتدي بهداه ولا يبصر أمر رشده وهذا كما سمي الكافر أعمى في قوله ﴿أفمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى﴾ وقوله ﴿وما يستوي الأعمى والبصير﴾ ﴿كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون﴾ وجه التشبيه بالكافر أن معناه زين لهؤلاء الكفر فعملوه مثل ما زين لأولئك الإيمان فعملوه فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه كما قال سبحانه كل حزب بما لديهم فرحون وروي عن الحسن أنه قال زينه والله لهم الشيطان وأنفسهم واستدل بقوله ﴿وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم﴾ وقوله ﴿زين﴾ لا يقتضي مزينا غيرهم لأنه بمنزلة قوله تعالى ﴿أنى يصرفون﴾ و﴿ أنى يؤفكون﴾ وقول العرب أعجب فلان بنفسه وأولع بكذا ومثله كثير ﴿وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر﴾ أي مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين عملهم ومثل ذلك جعلنا في كل قرية أكابر ﴿مجرميها﴾ وجعلنا ذا المكر من المجرمين كما جعلنا ذا النور من المؤمنين فكل ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بأولئك إلا أن أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم وهؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم لأن في كل واحد منهما الجعل بمعنى الصيرورة إلا أن الأول باللطف والثاني بالتمكين من المكر وإنما خص أكابر المجرمين بذلك دون الأصاغر لأنه أليق بالاقتدار على الجميع لأن الأكابر إذا كانوا في قبضة القادر فالأصاغر بذلك أجدر واللام في قوله ﴿ليمكروا فيها﴾ لام العاقبة ويسمى لام الصيرورة كما في قوله سبحانه ﴿ليكون لهم عدوا وحزنا﴾ وكما قال الشاعر:

فأقسم لو قتلوا مالكا

لكنت لهم حية راصدة

وأم سماك فلا تجزعي

فللموت ما تلد الوالدة

﴿وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون﴾ لأن عقاب ذلك يحل بهم ولا يصح أن يمكر الإنسان بنفسه على الحقيقة لأنه لا يصح أن يخفي عن نفسه معنى ما يحتال به عليها ويصح أن يخفي ذلك عن غيره وفائدة الآية أن أكابر مجرميها لم يمكروا بالمؤمنين على وجه المغالبة لله إذ هم كأنه سبحانه جعلهم ليمكروا وهذه مبالغة في انتفاء صفة المغالبة.