الآيات 112-113

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴿112﴾ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ﴿113﴾

القراءة:

في الشواذ عن الحسن ولتصغى إليه وليرضوه وليقترفوا بسكون اللام في الجميع والقراءة الظاهرة بكسر اللام في سائرها.

الحجة:

قال أبو الفتح هذه اللام هي الجارة أعني لام كي وهي معطوفة على الغرور من قوله يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا أي للغرور ولأن ﴿تصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا﴾ إلا أن إسكان هذه اللام شاذ في الاستعمال على قوته في القياس لأن هذا الإسكان إنما كثر عنهم في لام الأمر نحو قوله تعالى ﴿ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا﴾ وإنما أسكنت تخفيفا لثقل الكسرة فيها وفرقوا بينها وبين لام كي بأن لم يسكنوها وكأنهم إنما اختاروا السكون للأم الأمر والتحريك للأم كي من حيث كانت لام كي نائبة في أكثر الأمر عن أن وهي أيضا في جواب كان سيفعل إذا قلت ما كان ليفعل محذوفة مع اللام البتة فلما نابت عنها قووها بإقرار حركتها فيها لأن الحرف المتحرك أقوى من الساكن والأقوى أشبه بأن ينوب عن غيره من الأضعف.

اللغة:

الزخرف المزين يقال زخرفه زخرفة إذا زينه والزخرف كمال حسن الشيء وفي الحديث أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحي قيل كانت نقوش وتصاوير زينت الكعبة بها وقيل أراد بالزخرف الذهب والغرور ما له ظاهر تحبه وفيه باطن مكروه والشيطان غرور لأنه يحمل على محاب النفس ووراءه سوء العاقبة وبيع الغرر ما لا يكون على ثقة وصغوت إليه أصغي صغوا وصغوا وصغيت أصغي بالياء أيضا وأصغيت إليه إصغاء بمعنى قال الشاعر:

ترى السفيه به عن كل محكمة

زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء ويقال أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه ومنه الحديث كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يصغي الإناء للهر والأصل فيه الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض والاقتراف اكتساب الإثم ويقال خرج يقترف لأهله أي يكتسب لهم وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعة وعمله وقرف الذنب واقترفه عمله وقرفه بما ادعاه عليه أي رماه بالريبة وقرف القرحة أي قشر منها واقترف كذبا.

الإعراب:

نصب عدوا على أحد وجهين إما أن يكون مفعول جعلنا وشياطين بدل منه ومفسر له وعدوا في معنى أعداء وإما أن يكون أصله خبرا ويكون هنا مفعولا ثانيا لجعلنا على تقدير جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا أي أعداء وقوله ﴿غرورا﴾ نصب على المصدر من معنى الفعل المتقدم لأن معنى إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور فكأنه قال يغرون غرورا عن الزجاج وقيل أنه مفعول له عن ابن جني وقيل نصب على البدل من زخرف عن أبي مسلم.

المعنى:

ثم بين سبحانه ما كان عليه حال الأنبياء (عليهم السلام) مع أعدائهم تسلية لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن﴾ أي وكما جعلنا لك شياطين الإنس والجن أعداء كذلك جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء وأممهم وقيل في معنى قوله وجعلنا هنا وجوه (أحدها) أن المراد كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين فقد أمرنا من قبلك بمعاداة أعدائهم من الجن والإنس ومتى أمر الله رسوله بمعاداة قوم من المشركين فقد جعلهم أعداء له وقد يقول الأمير للمبارز من عسكره جعلت فلانا قرنك في المبارزة وإنما يعني بذلك أنه أمره بمبارزته لأنه إذا أمره بمبارزته فقد جعل من يبارزه قرنا له (وثانيها) أن معناه حكمنا بأنهم أعداء وأخبرنا بذلك لتعاملوهم معاملة الأعداء في الاحتراز عنهم والاستعداد لدفع شرهم وهذا كما يقال جعل القاضي فلانا عدلا وفلانا فاسقا إذا حكم بعدالة هذا وفسق ذلك (وثالثها) أن المراد خلينا بينهم وبين اختيارهم العداوة لم نمنعهم عن ذلك كرها ولا جبرا لأن ذلك يزيل التكليف (ورابعها) أنه سبحانه إنما أضاف ذلك إلى نفسه لأنه سبحانه لما أرسل إليهم الرسل وأمرهم بدعائهم إلى الإسلام والإيمان وخلع ما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان نصبوا عند ذلك العداوة لأنبيائه (عليهم السلام) ومثله قوله سبحانه مخبرا عن نوح (عليه السلام) ﴿فلم يزدهم دعائي إلا فرارا﴾ والمراد بشياطين الإنس والجن مردة الكفار من الفريقين عن الحسن وقتادة ومجاهد وقيل إن شياطين الإنس الذين يغوونهم وشياطين الجن الذين هم من ولد إبليس عن السدي وعكرمة وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس أن إبليس جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الإنس وفريقا إلى الجن فشياطين الإنس والجن أعداء الرسل والمؤمنين فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن في كل حين فيقول بعضهم لبعض أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثلها فكذلك يوحي بعضهم إلى بعض وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أيضا أنه قال إن الشياطين يلقي بعضهم بعضا فيلقي إليه ما يغوى به الخلق حتى يتعلم بعضهم من بعض ﴿يوحي﴾ أي يوسوس ويلقي خفية ﴿بعضهم إلى بعض زخرف القول﴾ أي المموة المزين الذي يستحسن ظاهره لا حقيقة له ولا أصل ﴿غرورا﴾ أي يغرونهم بذلك غرورا أو ليغروهم بذلك ﴿ولو شاء ربك ما فعلوه﴾ أخبر سبحانه أنه لو شاء أن يمنعهم من ذلك جبرا ويحول بينهم وبينه لقدر على ذلك ولو حال بينهم وبينه لما فعلوه ولكنه خلى بينهم وبين أفعالهم إبقاء للتكليف وامتحانا للمكلفين وقيل معناه ولو شاء ربك ما فعلوه بأن ينزل عليهم عذابا أو آية فتظل أعناقهم لها خاضعين ﴿فذرهم وما يفترون﴾ أي دعهم وافتراءهم الكذب فإني أجازيهم وأعاقبهم أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأن يخلي بينهم وبين ما اختاروه ولا يمنعهم منه بالقهر تهديدا لهم كما قال اعملوا ما شئتم دون أن يكون أمرا واجبا أو ندبا ﴿ولتصغى إليه﴾ أي ولتميل إلى هذا الوحي بزخرف القول أو إلى هذا القول المزخرف ﴿أفئدة﴾ أي قلوب ﴿الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ والعامل في قوله ﴿ولتصغى﴾ قوله ﴿يوحي﴾ ولا يجوز أن يكون العامل فيه جعلنا لأن الله سبحانه لا يجوز أن يريد إصغاء القلوب إلى الكفر ووحي الشياطين إلا أن تجعلها لام العاقبة كما في قوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا على أنه غير معلوم أن كل من أرادوا منه الصغو قد صغى إلى كلامهم ولم يصح ذلك أيضا في قوله ﴿وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون﴾ لأنه غير معلوم حصول ذلك وعلى ما قلناه يكون جميع ذلك معطوفا بعضه على بعض والمراد بالأفئدة أصحاب الأفئدة ولكن لما كان الاعتقاد في القلب وكذلك الشهوة أسند الصغو إلى القلب ﴿وليرضوه﴾ أي وليرضوا ما أوحي إليهم من القول المزخرف ﴿وليقترفوا﴾ أي وليكتسبوا من الإثم والمعاصي ﴿ما هم مقترفون﴾ أي مكتسبون في عداوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنين عن ابن عباس والسدي وقال أبو علي الجبائي إن اللام في قوله ﴿ولتصغى﴾ وما بعده لام الأمر والمراد بها التهديد كما قال سبحانه ﴿اعملوا ما شئتم﴾ واستفزز من استطعت وهذا غلط فاحش لأنه لو كان كذلك لقال ولتصغ فحذف الألف وقال البلخي اللام في ولتصغى لام العاقبة وما بعده لام الأمر الذي يراد به التهديد وهذا جائز إلا أن فيه تعسفا فالأصح ما ذكرناه.