الآيات 109-110

وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿109﴾ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿110﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر عن عاصم ونصير عن الكسائي وخلف إنها بكسر الألف وقرأ الباقون ﴿أنها﴾ بفتح الألف وقرأ ابن عامر وحمزة لا تؤمنون بالتاء والباقون ﴿لا يؤمنون﴾ بالياء وفي الشواذ ويذرهم بالياء والجزم قراءة الأعمش.

الحجة:

قال أبو علي ﴿وما يشعركم﴾ ما فيه استفهام وفاعل ﴿يشعركم﴾ ضمير ما ولا يجوز أن يكون نفيا لأن الفعل فيه يبقى بلا فاعل فإن قلت يكون ما نفيا ويكون فاعل ﴿يشعركم﴾ ضمير اسم الله تعالى قيل ذلك لا يصح لأن التقدير يصير وما يشعركم الله انتفاء إيمانهم وهذا لا يستقيم لأن الله قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون بقوله ﴿ولو أننا نزلنا﴾ الآية وإذا فسد أن يكون ما للنفي ثبت أنها للاستفهام فيكون اسما فيصير في الفعل ضميره ويكون المعنى وما يدريكم إيمانهم إذا جاءت فحذف المفعول وحذف المفعول كثير ثم قال إنهم لا يؤمنون مع مجيء الآية فمن كسر الهمزة فإنه استأنف على القطع بأنهم لا يؤمنون ومن فتح الهمزة جاز أن يكون ﴿يشعركم﴾ منقولا من شعرت الشيء وشعرت به مثل دريته ودريت به في أنه يتعدى مرة بحرف ومرة بلا حرف فإذا عديته بالحرف جاز أن يكون أن في قول من لم يجعلها بمعنى لعل في موضع جر لأن الكلام لما طال صار كالبدل منه وجاز أن يكون في موضع نصب والوجه في هذه القراءة على تأويلين (أحدهما) أن يكون بمعنى لعل كقول الشاعر وهو دريد بن الصمة:

ذريني أطوف في البلاد لأنني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا وقال:

هل أنتم عائجون بنا لأنا

نرى العرصات أو أثر الخيام وقال عدي بن زيد:

أعاذل ما يدريك أن منيتي

إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد أي لعل منيتي المعنى وما يشعركم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وهذا ما فسره الخليل بقوله ائت السوق إنك تشتري لنا شيئا أي لعلك وقد جاء في التنزيل لعل بعد العلم قال سبحانه ﴿وما يدريك لعله يزكى﴾ ﴿وما يدريك لعل الساعة قريب﴾ والتأويل الآخر الذي لم يذهب إليه الخليل وسيبويه أن يكون لا في قوله ﴿لا يؤمنون﴾ زائدة والتقدير وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون ومثل لا هذه في كونها في تأويل زائدة وفي آخر غير زائدة قول الشاعر:

أبى جودة لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله يريد لا يمنع الجائع الخبز وينشد أبي جودة لا البخل ولا البخل فمن نصب البخل جعلها زائدة كأنه قال أبى جودة البخل ومن قال لا البخل أضاف لا إلى البخل ووجه القراءة بالياء في ﴿يؤمنون﴾ أن المراد بهم قوم مخصوصون بدلالة قوله ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة الآية وليس كل الكفار بهذه الصفة أي لا يؤمن هؤلاء المقسمون ووجه القراءة بالتاء أنه انصراف من الغيبة إلى الخطاب والمراد بالمخاطبين هم الغيب المقسمون الذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون ومن قرأ ويذرهم فإنه أسكن المرفوع تخفيفا.

اللغة:

الجهد بالفتح المشقة والجهد بالضم الطاقة وقيل الجهد بالفتح المبالغة فقوله ﴿جهد أيمانهم﴾ أي بالغوا في اليمين واجتهدوا فيه وهو منصوب على المصدر لأنه مضاف إلى المصدر والمضاف إلى المصدر مصدر فإن الأيمان جمع اليمين واليمين هي القسم والتقدير وأقسموا بالله جهد أقسامهم.

النزول:

قالت قريش يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا ب آية من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي شيء تحبون أن آتيكم به قالوا اجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أ حق ما تقول أم باطل وأرنا الملائكة يشهدون لك أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإن فعلت بعض ما تقولون أ تصدقونني قالوا نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين وسأل المسلمون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يدعو أن يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبرائيل (عليه السلام) فقال له إن شئت أصبح الصفا ذهبا ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بل يتوب تائبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي.

المعنى:

ثم بين سبحانه حال الكفار الذين سألوه الآيات فقال ﴿وأقسموا﴾ أي حلفوا ﴿بالله جهد أيمانهم﴾ أي مجدين مجتهدين مظهرين الوفاء به ﴿لئن جاءتهم آية﴾ مما سألوه ﴿ليؤمنن بها قل﴾ يا محمد ﴿إنما الآيات﴾ أي الأعلام والمعجزات ﴿عند الله﴾ والله تعالى مالكها والقادر عليها فلو علم صلاحكم في إنزالها لأنزلها ﴿وما يشعركم﴾ الخطاب متوجه إلى المشركين عن مجاهد وابن زيد وقيل هو متوجه إلى المؤمنين عن الفراء وغيره لأنهم ظنوا أنهم لو أجيبوا إلى الآيات لآمنوا ﴿أنها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ قد مر معناه ﴿ونقلب أفئدتهم وأبصارهم﴾ أخبر سبحانه أنه يقلب أفئدة هؤلاء الكفار وأبصارهم عقوبة لهم وفي كيفية تقليبهما قولان (أحدهما) أنه يقلبهما في جهنم على لهب النار وحر الجمر ﴿كما لم يؤمنوا به أول مرة﴾ في الدنيا عن الجبائي قال وجمع بين صفتهم في الدنيا وصفتهم في الآخرة كما قال وجوه يومئذ خاشعة يعني في الآخرة عاملة ناصبة يعني في الدنيا (والآخر) أن المعنى نقلب أفئدتهم وأبصارهم بالحيرة التي تغم وتزعج النفس وقوله ﴿كما لم يؤمنوا به أول مرة﴾ قيل إنه متصل بما قبله وتقديره وأقسموا بالله ليؤمنن بالآيات والله تعالى قد قلب قلوبهم وأبصارهم وعلم أن فيها خلاف ما يقولون يقال فلان قد قلب هذه المسألة وقلب هذا الأمر إذا عرف حقيقته ووقف عليه وما يدريكم ﴿أنها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ كما لم يؤمنوا بما أنزل الله من الآيات أول مرة عن ابن عباس ومجاهد وقيل معناه لو أعيدوا إلى الدنيا ثانية لم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا كما قال ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه عن ابن عباس في رواية أخرى وقيل معناه يجازيهم في الآخرة كما لم يؤمنوا به في الدنيا عن الجبائي والهاء في به يحتمل أن يكون عائدة على القرآن وما أنزل من الآيات ويحتمل أن تكون عائدة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿ونذرهم في طغيانهم﴾ أي نخليهم وما اختاروه من الطغيان فلا نحول بينه وبينهم ﴿يعمهون﴾ يترددون في الحيرة قال الحسين بن علي المغربي قوله ﴿ونقلب أفئدتهم وأبصارهم﴾ حشو بين الجملتين ومعناه أنا نحيط علما بذات الصدور وخائنة الأعين أي نختبر قلوبهم فنجد باطنها بخلاف ظاهرها.