الآيات 88-90

ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿88﴾ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴿89﴾ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿90﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وحده اقتده بكسر الهاء مشبعة والباقون ﴿اقتده﴾ ساكنة الهاء إلا أن حمزة والكسائي ويعقوب وخلفا يحذفون الهاء في الوصل ويثبتونها في الوقف والباقون يثبتونها في الوصل والوقف.

الحجة:

قال أبو علي الوجه الوقوف على الهاء لاجتماع الجمهور على إثباته ولا ينبغي أن يوصل والهاء ثابتة لأن هذه الهاء في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء في أن الهاء للوقف كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن فكما لا تثبت الهمزة في الوصل كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء ووجه قراءة ابن عامر أن يجعل الهاء كناية عن المصدر لا التي تلحق الوقف وحسن إضماره لذكر الفعل الدال عليه ومثل ذلك قول الشاعر:

فجال على وحشييه وتخاله

على ظهره سبا جديدا يمانيا كأنه قال وتخال خيلا على ظهره سبا فعلى متعلق بمحذوف والتقدير ثابتا على ظهره ومثله قول الشاعر:

هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرشى إن يلقها ذيب فالهاء كناية عن المصدر ودل يدرسه على الدرس ولا يجوز أن يكون ضمير القرآن لأن الفعل قد تعدى إليه باللام فلا يجوز أن يتعدى إليه وإلى ضميره.

المعنى:

ثم بين سبحانه إكرامه لأنبيائه (عليهم السلام) ثم أمر من بعد بالاقتداء بهم فقال ﴿ذلك﴾ وهو إشارة إلى ما تقدم ذكره من التفضيل والاجتباء والهداية والاصطفاء ﴿هدى الله يهدي به من يشاء من عباده﴾ ممن لم يسمهم في هذه الآيات والهداية هنا هي الإرشاد إلى الثواب دون الهداية التي هي نصب الأدلة أ لا ترى إلى قوله ﴿وكذلك نجزي المحسنين﴾ وذلك لا يليق إلا بالثواب الذي يختص المحسنين دون الدلالة التي يشترك بها المؤمن والكافر وقوله ﴿ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾ يدل أيضا على ذلك ومعناه أنهم لو أشركوا لبطلت أعمالهم التي كانوا يوقعونها على خلاف الوجه الذي يستحق به الثواب لتوجيهها إلى غير الله تعالى وليس في ذلك دلالة على أن الثواب الذي استحقوه على طاعتهم المتقدمة يحبط إذ ليس في ظاهر الآية ما يقتضي ذلك على أنا قد علمنا بالدليل أن المشرك لا يكون له ثواب أصلا واجتمعت الأمة على ذلك ﴿أولئك﴾ يعني به من تقدم ذكرهم من الأنبياء ﴿الذين آتيناهم﴾ أي أعطيناهم ﴿الكتاب﴾ أراد الكتب ووحد لأنه عنى به الجنس ﴿والحكم﴾ معناه والحكم بين الناس وقيل الحكمة ﴿والنبوة﴾ أي الرسالة ﴿فإن يكفر بها﴾ أي بالكتاب والحكم وبالنبوة و﴿ هؤلاء﴾ يعني الكفار الذين جحدوا نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك الوقت ﴿فقد وكلنا بها﴾ أي بمراعاة أمر النبوة وتعظيمها والأخذ بهدى الأنبياء ﴿قوما ليسوا بها بكافرين﴾ واختلف في المعنيين بذلك فقيل عنى به الأنبياء الذين جرى ذكرهم آمنوا بما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قبل وقت مبعثه عن الحسن واختاره الزجاج والطبري والجبائي وقيل عنى به الملائكة عن أبي رجاء العطاردي وقيل عنى به من آمن من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في وقت مبعثه وقيل عنى بقوله ﴿فإن يكفر بها﴾ كفار قريش وبقوله ﴿قوما ليسوا بها بكافرين﴾ أهل المدينة عن الضحاك واختاره الفراء وإنما قال ﴿وكلنا بها﴾ ولم يقل فقد قام بها قوم تشريفا لهم بالإضافة إلى نفسه وقيل معناه فقد ألزمناها قوما فقاموا بها وفي هذا ضمان من الله تعالى أن ينصر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ويحفظ دينه ﴿أولئك الذين هدى الله﴾ أي هداهم الله إلى الصبر ﴿فبهداهم اقتده﴾ معناه اقتد بهم في الصبر على أذى قومك واصبر كما صبروا حتى تستحق من الثواب ما استحقوه وقيل معناه أولئك الذين قبلوا هدى الله واهتدوا بلطف الله الذي فعله بهم فاقتد بطريقتهم في التوحيد والأدلة وتبليغ الرسالة والإشارة بأولئك إلى الأنبياء الذين تقدم ذكرهم عن ابن عباس والسدي وابن زيد وقيل إلى المؤمنين الموكلين بحفظ دين الله لأنه في ذكرهم عن الحسن وقتادة وعلى هذا فلم يتكرر لفظ الهداية وفي القول الأول أعاد ذكر الهداية لطول الكلام ويكون معنى قوله ﴿فبهداهم اقتده﴾ اقتد بصبر أيوب وسخاء إبراهيم وصلابة موسى وزهد عيسى ثم فسر بعض ما يقتدى بهم فيه بقوله ﴿قل﴾ يا محمد ﴿لا أسألكم عليه أجرا﴾ أي لا أطلب منكم على تبليغ الوحي وأداء الرسالة جعلا كما لم يسأل ذلك الأنبياء قبلي فإن أخذ الأجر عليه ينفر الناس عن القبول ﴿إن هو﴾ أي ما هو ﴿إلا ذكرى﴾ أي تذكيرا ﴿للعالمين﴾ بما يلزمهم إتيانه واجتنابه وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يخلو كل زمان من حافظ للدين إما نبي أو إمام لقوله ﴿فقد وكلنا بها قوما﴾ وأسند التوكيل إلى نفسه وقد استدل قوم بالآية على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأمته كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم إلا ما قام الدليل على نسخه وهذا لا يصح لأن الآية قد وردت فيما اتفقوا عليه على ما تقدم ذكره وذلك لا يليق إلا بالتوحيد ومكارم الأخلاق فأما الشرائع فإنها تختلف فلا يصح الاقتداء بجميع الأنبياء فيها وتدل الآية على أن نبينا مبعوث إلى كافة العالمين وإن النبوة مختومة به ولذلك قال ﴿إن هو إلا ذكرى للعالمين﴾.