الآيات 52-53

وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿52﴾ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴿53﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر بالغدوة والعشي في كل القرآن بواو والباقون ﴿بالغداة﴾ بالألف.

الحجة:

قال أبو علي الوجه ﴿الغداة﴾ لأنها تستعمل نكرة وتتعرف باللام فأما غدوة فمعرفة لم تتنكر وهو علم صيغ له قال سيبويه غدوة وبكرة جعل كل واحد منهما اسما للجنس كما جعلوا أم حبين اسما لدابة معروفة قال وزعم يونس عن أبي عمرو وهو القياس إنك إذا قلت لقيته يوما من الأيام غدوة أو بكرة وأنت تريد المعرفة لم تنون وهذا يقوي قراءة من قرأ ﴿بالغداة والعشي﴾ ووجه قراءة ابن عامر أن سيبويه قال زعم الخليل أنه يجوز أن تقول أتيتك اليوم غدوة وبكرة فجعلهما بمنزلة ضحوة ومن حجته أن بعض أسماء الزمان جاء معرفة بغير ألف ولام نحو ما حكاه أبو زيد من قولهم لقيته فينة غير مصروف والفينة بعد الفينة فألحق لام المعرفة ما استعمل معرفة ووجه ذلك أنه يقدر فيه التنكير والشياع كما يقدر فيه ذلك إذا ثني وذلك مستمر في جميع هذا الضرب من المعارف ومثل ذلك ما حكاه سيبويه من قول العرب هذا يوم اثنين مباركا وأتيتك يوم اثنين مباركا فجاء معرفة بلا ألف ولام كما جاء بالألف واللام ومن ثم انتصب الحال ومثل ذلك قولهم هذا ابن عرس مقبل أما أن يكون جعل عرسا نكرة وإن كان علما وأما أن يكون أخبر عنه بخبرين.

الإعراب:

﴿فتطردهم﴾ جواب للنفي في قوله ﴿ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء﴾ وقوله ﴿فتكون﴾ نصب لأنه جواب للنهي وهو قوله ﴿ولا تطرد﴾ أي لا تطردهم فتكون من الظالمين وقد بينا تقديره في مواضع.

النزول:

روى الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال مر الملأ من قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وعنده صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أفنحن نكون تبعا لهم أهؤلاء الذين من الله عليهم أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم تبعناك فأنزل الله تعالى ﴿ولا تطرد﴾ إلى آخره وقال سلمان وخباب فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري وذووهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين فحقروهم وقالوا يا رسول الله لو نحيت هؤلاء عنك حتى نخلو بك فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد ثم إذا انصرفنا فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك فأجابهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى ذلك فقالا له اكتب لنا بهذا على نفسك كتابا فدعا بصحيفة وأحضر عليا ليكتب قال ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرائيل (عليه السلام) بقوله ﴿ولا تطرد الذين يدعون﴾ إلى قوله ﴿أليس الله بأعلم بالشاكرين﴾ فنحى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الصحيفة وأقبل علينا ودنونا منه وهو يقول كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله عز وجل ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم﴾ الآية قال فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقعد معنا ويدنو حتى كادت ركبتنا تمس ركبته فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم وقال لنا الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات.

المعنى:

ثم نهى سبحانه رسوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن إجابة المشركين فيما اقترحوه عليه من طرد المؤمنين فقال ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي﴾ يريد يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة يعني صلاة الصبح والعصر عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وقيل إن المراد بالدعاء هاهنا الذكر أي يذكرون ربهم طرفي النهار عن إبراهيم وروي عنه أيضا أن هذا في الصلوات الخمس ﴿يريدون وجهه﴾ يعني يطلبون ثواب الله ويعملون ابتغاء مرضاة الله لا يعدلون بالله شيئا عن عطا قال الزجاج شهد الله لهم بصدق النيات وأنهم مخلصون في ذلك له أي يقصدون الطريق الذي أمرهم بقصده فكأنه ذهب في معنى الوجه إلى الجهة والطريق ﴿ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء﴾ يريد ما عليك من حساب المشركين شيء ولا عليهم من حسابك شيء إنما الله الذي يثيب أولياءه ويعذب أعداءه عن ابن عباس في رواية عطا وأكثر المفسرين يردون الضمير إلى الذين يدعون ربهم وهو الأشبه وذكروا فيه وجهين (أحدهما) ما عليك من عملهم ومن حساب عملهم من شيء عن الحسن وابن عباس وهذا كقوله تعالى في قصة نوح إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وهذا لأن المشركين أزدروهم لفقرهم وحاجتهم إلى الأعمال الدينية وهم برفع المشركين عليهم في المجلس فقيل له ما عليك من حسابهم من شيء أي لا يلزمك عار بعملهم ﴿فتطردهم﴾ ثم قال ﴿وما من حسابك عليهم من شيء﴾ تأكيدا لمطابقة الكلام وإن كان مستغنى عنه بالأول (الوجه الثاني) ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم أي ليس رزقهم عليك ولا رزقك عليهم وإنما يرزقك وإياهم الله الرازق فدعهم يدنوا منك ولا تطردهم ﴿فتكون من الظالمين﴾ لهم بطردهم عن ابن زيد وقيل فتكون من الضارين لنفسك بالمعصية عن ابن عباس قال ابن الأنباري عظم الأمر في هذا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وخوف الدخول في جملة الظالمين لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء وأولي الأموال على الضعفاء مقدرا أنه يستجر بإسلامهم إسلام قومهم ومن لف لفهم وكان (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يقصد في ذلك إلا قصد الخير ولم ينو به ازدراء بالفقراء فأعلمه الله إن ذلك غير جائز ثم أخبر الله سبحانه أنه يمتحن الفقراء بالأغنياء والأغنياء بالفقراء فقال ﴿وكذلك فتنا بعضهم ببعض﴾ أي كما ابتلينا قبلك الغني بالفقير والشريف بالوضيع ابتلينا هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله حمي آنفا أن يسلم ويقول سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم وإنما قال سبحانه ﴿فتنا﴾ وهو لا يحتاج إلى الاختبار لأنه عاملهم معاملة المختبر ﴿ليقولوا﴾ هذه لام العاقبة المعنى فعلنا هذا ليصبروا ويشكروا ف آل أمرهم إلى هذه العاقبة ﴿أهؤلاء من الله عليهم من بيننا﴾ والاستفهام معناه الإنكار كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة أو خصوا بمنة وقال أبو علي الجبائي المعنى في ﴿فتنا﴾ شددنا التكليف على أشراف العرب بأن أمرناهم بالإيمان وبتقديمهم هؤلاء الضعفاء على نفوسهم لتقدمهم إياهم في الإيمان وهذا أمر كان شاقا عليهم فلذلك سماه الله فتنة وقوله ﴿ليقولوا﴾ أي فعلنا هذا بهم ليقول بعضهم لبعض على وجه الاستفهام لا على وجه الإنكار أ هؤلاء من الله عليهم بالإيمان إذا رأوا النبي يقدم هؤلاء عليهم وليرضوا بذلك من فعل رسول الله ولم يجعل هذه الفتنة والشدة في التكليف ليقولوا ذلك على وجه الإنكار لأن إنكارهم لذلك كفر بالله ومعصية والله سبحانه لا يريد ذلك ولا يرضاه ولأنه لو أراد ذلك وفعلوه كانوا مطيعين له لا عاصين وقد ثبت خلافه وقوله ﴿أليس الله بأعلم بالشاكرين﴾ هذا استفهام تقرير أي أنه كذلك كقول جرير:

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح وهذا دليل واضح على أن فقراء المؤمنين وضعفاءهم أولى بالتقريب والتقديم والتعظيم من أغنيائهم ولقد قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من أتى غنيا فتواضع لغنائه ذهب ثلثا دينه.