الآيات 42-45

وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴿42﴾ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿43﴾ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ﴿44﴾ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿45﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر فتحنا بالتشديد في جميع القرآن ووافقه ابن عامر إلا قوله ولو فتحنا عليهم بابا وحتى إذا فتحنا عليهم بابا فإنه خففهما ووافقهما يعقوب في القمر وقرأ الباقون في جميع ذلك بالتخفيف إلا مواضع قد اختلفوا فيها سنذكرها إن شاء الله إذا بلغنا إلى مواضعها.

الحجة:

من ثقل أراد التكثير والمبالغة ومن خفف لم يرد ذلك.

اللغة:

البأساء من البأس والخوف والضراء من الضر وقد يكون البأساء من البؤس، والتضرع التذلل يقال ضرع فلان لفلان إذا بخع له وسأله أن يعطيه والمبلس الشديد الحسرة وقال الفراء المبلس المنقطع الحجة قال رؤبة:

وحضرت يوم الخميس الأخماس

وفي الوجوه صفرة وإبلاس دابر القوم الذي يدبرهم ويدبرهم لغتان وهو الذي يتلوهم من خلفهم ويأتي على أعقابهم وأنشد:

آل المهلب جز الله دابرهم

أضحوا رمادا فلا أصل ولا طرف وقال الأصمعي الدابر الأصل يقال قطع الله دابره أي أصله وأنشد:

فدى لكما رجلي ورحلي وناقتي

غداة الكلاب إذ تجز الدوابر

أي يقتل القوم فتذهب أصولهم فلا يبقى لهم أثر وقال غيره دابر الأمر آخره وروي عن عبد الله أنه قال من الناس من لا يأتي الصلاة ألا دبريا بضم الدال يعني في آخر الوقت كذا يقول أصحاب الحديث قال أبو زيد الصواب دبريا بفتح الدال والباء.

الإعراب:

لو لا للتحضيض ولا يدخل إلا على الفعل ومعناه هلا تضرعوا ﴿ولكن قست قلوبهم﴾ معطوف على تأويل الكلام الأول فإن في قوله (هلا تضرعوا) دلالة على أنهم لم يتضرعوا وقوله ﴿بغتة﴾ مصدر وقع موقع الحال أي أخذناهم مباغتين.

المعنى:

ثم أعلم الله سبحانه نبيه حال الأمم الماضية في مخالفة رسله وبين أن حال هؤلاء إذا سلكوا طريق المخالفة كحالهم في نزول العذاب بهم فقال ﴿ولقد أرسلنا﴾ وهاهنا محذوف وتقديره رسلا ﴿إلى أمم من قبلك﴾ فخالفوهم ﴿فأخذناهم﴾ وحسن الحذف للإيجاز به والاختصار من غير إخلال لدلالة مفهوم الكلام عليه ﴿بالبأساء والضراء﴾ يريد به الفقر والبؤس والأسقام والأوجاع عن ابن عباس والحسن ﴿لعلهم يتضرعون﴾ ومعناه لكي يتضرعوا وقال الزجاج لعل ترج وهذا الترجي للعباد ، المعنى فأخذناهم بذلك ليكون ما يرجوه العباد منهم من التضرع كما قال في قصة فرعون لعله يتذكر أو يخشى قال سيبويه المعنى اذهبا أنتما على رجائكما فالله عالم بما يكون من وراء ذلك أخبر الله تعالى أنه أرسل الرسل إلى أقوام بلغوا من القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم ليخضعوا ويذلوا لأمر الله فلم يخضعوا ولم يتضرعوا وهذا كالتسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا﴾ معناه فهلا تضرعوا إذ جاءهم بأسنا ﴿ولكن قست قلوبهم﴾ فأقاموا على كفرهم فلم تنجع فيهم العظة ﴿وزين لهم الشيطان﴾ بالوسوسة والإغراء بالمعصية لما فيها من عاجل اللذة ﴿ما كانوا يعملون﴾ يعني أعمالهم وفي هذا حجة على من قال إن الله لم يرد من الكافرين الإيمان لأنه سبحانه بين أنه إنما فعل ذلك بهم ليتضرعوا وبين أن الشيطان هو الذي زين الكفر للكافر بخلاف ما قالته المجبرة من أنه تعالى هو المزين لهم ذلك ﴿فلما نسوا ما ذكروا به﴾ أي تركوا ما وعظوا به عن ابن عباس وتأويله تركوا العمل بذلك وقيل تركوا ما دعاهم إليه الرسل عن مقاتل ﴿فتحنا عليهم أبواب كل شيء﴾ أي كل نعمة وبركة من السماء والأرض عن ابن عباس وقيل أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير عن مقاتل والمعنى أنه تعالى امتحنهم بالشدائد لكي يتضرعوا ويتوبوا فلما تركوا ذلك فتح عليهم أبواب النعم والتوسعة في الرزق ليرغبوا بذلك في نعيم الآخرة وإنما فعل ذلك بهم وإن كان الموضع موضع العقوبة والانتقام دون الإكرام والإنعام ليدعوهم ذلك إلى الطاعة فإن الدعاء إلى الطاعة يكون تارة بالعنف وتارة باللطف أو لتشديد العقوبة عليهم بالنقل من النعيم إلى العذاب الأليم ﴿حتى إذا فرحوا بما أوتوا﴾ من النعم واشتغلوا بالتلذذ وأظهروا السرور بما أعطوه ولم يروه نعمة من الله تعالى حتى يشكروه ﴿أخذناهم﴾ أي أحللنا بهم العقوبة ﴿بغتة﴾ أي مفاجاة من حيث لا يشعرون ﴿فإذا هم مبلسون﴾ أي آيسون من النجاة والرحمة عن ابن عباس وقيل أذلة خاضعون عن البلخي وقيل متحيرون منقطعوا الحجة، والمعاني متقاربة والمراد بقوله ﴿أبواب كل شيء﴾ التكثير والتفخيم دون التعميم وهو مثل قوله وأوتيت من كل شيء والمراد فتحنا عليهم أبواب أشياء كثيرة وآتيناهم خيرا كثيرا وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إذا رأيت الله تعالى يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج منه ثم تلا هذه الآية، ونحوه ما روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال يا ابن آدم إذا رأيت ربك يتابع عليك نعمة فاحذره ﴿فقطع دابر القوم الذين ظلموا﴾ معناه فاستؤصل الذين ظلموا بالعذاب فلم يبق لهم عقب ولا نسل ﴿والحمد لله رب العالمين﴾ على إهلاك أعدائه وإعلاء كلمة رسله، حمد الله تعالى نفسه بأن استأصل شافتهم وقطع دابرهم لأنه سبحانه أرسل إليهم وأنظرهم بعد كفرهم وأخذهم بالبأساء والضراء واختبرهم بالمحنة والبلاء ثم بالنعمة والرخاء وبالغ في الإنذار والإمهال والإنظار فهو المحمود على كل حال وفي هذا تعليم للمؤمنين ليحمدوا الله تعالى على كفايته إياهم شر الظالمين ودلالة على أن هلاكهم نعمة من الله تعالى يجب حمده عليها وروى علي بن إبراهيم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المقري عن فضيل بن عياض عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن الورع فقال الورع هو الذي يتورع عن محارم الله ويجتنب هؤلاء وإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه وإذا رأى المنكر ولم ينكره وهو يقدر عليه فقد أحب أن يعصى الله ومن أحب أن يعصى الله فقد بارز الله بالعداوة ومن أحب بقاء الظالمين فقد أحب أن يعصى الله وأن الله حمد نفسه على إهلاك الظالمين فقال ﴿فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين﴾.