الآيـة 96

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿96﴾

اللغة:

وجده وصادفه وألفاه نظائر يقال وجدت الشيء وجدانا إذا أصبته ويقال وجدت بمعنى علمت والحرص شدة الطلب ورجل حريص وقوم حراص والمودة المحبة يقال وددت الرجل أوده ودا وودا وودادا وودادة ومودة والتعمير طول العمر والعمر والعمر لغتان وأصله من العمارة الذي هو ضد الخراب فالعمر المدة التي يعمر فيها البدن بالحياة والألف من التأليف سمي بذلك العدد لأنه ضم مائة عشر مرات والزحزحة التنحية يقال زحزحته فتزحزح وقال الشاعر:

وقالوا تزحزح لا بنا فضل حاجة

إليك ولا منا لوهيك راقع

والبصير بمعنى المبصر كما أن السميع بمعنى المسمع ولكنه صرف إلى فعيل ومثله بديع السماوات بمعنى المبدع والعذاب الأليم بمعنى المؤلم هذا في اللغة وعند المتكلمين المبصر هو المدرك للمبصرات والبصير هو الحي الذي لا آفة به فهو ممن يجب أن يبصر المبصرات إذا وجدت وليس أحدهما هو الآخر وكذلك القول في السميع والسامع.

الإعراب:

﴿لتجدنهم﴾ اللام لام القسم والنون للتأكيد وتقديره والله لتجدنهم قال سيبويه سألت الخليل عن قوله لتفعلن إذا جاءت مبتدأ فقال هي على نية القسم وهذه اللام إذا دخلت على المستقبل لزمته في الأمر الأكثر بالنون وإذا كان وجدت بمعنى وجدان الضالة يعدى إلى مفعول واحد كفقدت الذي هو ضده فينتصب أحرص على الحال وإذا كان بمعنى علمت تعدى إلى مفعولين ثانيهما عبارة عن الأول فيكون أحرص هو المفعول الثاني وهو الأصح وقوله ﴿ومن الذين أشركوا﴾ قال الفراء يريد وأحرص من الذين أشركوا أيضا كما يقال هو أسخى الناس ومن حاتم ومن هرم لأن تأويل قولك أسخى الناس إنما هو أسخى الناس وقال الزجاج تقديره ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا وقيل إنما دخلت من في قوله ﴿ومن الذين أشركوا﴾ ولم يدخل في قوله ﴿أحرص الناس﴾ لأنهم بعض الناس والإضافة في باب أفعل لا يكون إلا كذلك تقول الياقوت أفضل الحجارة ولا تقول الياقوت أفضل الزجاج بل تقول أفضل من الزجاج فلذلك قال ﴿ومن الذين أشركوا﴾ لأن اليهود ليسوا هم بعض المجوس وهم بعض الناس وقوله ﴿وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر﴾ فيه وجوه (أحدها) أن هو كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره وأن يعمر في موضع رفع بأنه فاعل تقديره وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره كما يقال مررت برجل معجب قيامه (وثانيها) أنه كناية عما جرى ذكره من طول العمر وقوله أن يعمر بيان لقوله هو وتقديره وما تعميره بمزحزحه من العذاب وكأنه قيل وما هو الذي ليس بمزحزحه فقيل هو التعمير (وثالثها) أنه عماد وأن يعمر في موضع الرفع بأنه مبتدأ وبمزحزحه خبره ومنع الزجاج هذا القول الأخير قال لا يجيز البصريون ما هو قائما زيد وما هو بقائم زيد بمعنى الأمر والشأن وقال غيره إذا كانت ما غير عاملة في الباء جاز كقولهم ما بهذا بأس.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عن أحوال اليهود فقال ﴿ولتجدنهم﴾ أي ولتعلمن يا محمد هؤلاء اليهود وقيل يعني به علماء اليهود ﴿أحرص الناس على حيوة﴾ أي أحرصهم على البقاء في الدنيا أشد من حرص سائر الناس ﴿ومن الذين أشركوا﴾ أي ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا وهم المجوس ومن لا يؤمن بالبعث وقال أبو علي الجبائي إن الكلام تم عند قوله ﴿على حيوة﴾ وقوله ﴿ومن الذين أشركوا﴾ تقديره ومن (اليهود) الذين أشركوا من يود أحدهم لو يعمر ألف سنة فحذف من وقال علي بن عيسى هذا غير صحيح لأن حذف من لا يجوز في مثل هذا الموضع وقال أبو مسلم الأصفهاني أن في هذا الكلام تقديما وتأخيرا وتقديره ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حيوة وأقول إذا جاز هاهنا أن يحذف الموصوف الذي هو طائفة وتقام الصفة مقامه وهو قوله ﴿من الذين أشركوا﴾ فليجز على ما ذهب إليه الجبائي أن يكون تقديره ومن الذين أشركوا طائفة يود أحدهم فيحذف الموصوف ويقام صفته الذي هو ﴿يود أحدهم لو يعمر ألف سنة﴾ مقامه فيصح على هذا تقدير الحذف ويستوي القولان من حيث الصورة والصفة ويختلفان من حيث المعنى ويكون من هنا هي الموصوفة لا الموصولة كما قدره الجبائي وقوله ﴿يود أحدهم لو يعمر ألف سنة﴾ ذكر الألف لأنها نهاية ما كانت المجوس يدعو به بعضهم لبعض وتحيى به الملوك يقولون عش ألف نوروز وألف مهرجان قال ابن عباس هو قول أحدهم لمن عطس هزار سأل بزي يقال فهؤلاء الذين يزعمون أن لهم الجنة لا يتمنون الموت وهم أحرص ممن لا يؤمن بالبعث وكذلك يجب أن يكون هؤلاء لعلمهم بما أعد الله لهم في الآخرة من الجحيم والعذاب الأليم على كفرهم وعنادهم مما لا يقر به أهل الشرك فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث وعلى الحياة أحرص لهذه العلة وقوله ﴿ ما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر﴾ أي وما أحدهم بمنجيه من عذاب الله ولا بمبعده منه تعميره وهو أن يطول له البقاء لأنه لا بد للعمر من الفناء هذا هو أحسن الوجوه التي تقدم ذكرها ﴿والله بصير بما يعملون﴾ أي عليم بأعمالهم لا يخفى عليه شيء منها بل هو محيط بجميعها حافظ لها حتى يذيقهم بها العذاب وفي هذه الآية دلالة على أن الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا ونحوه مذموم وإنما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة وتلافي الفائت بالتوبة والإنابة ودرك السعادة بالإخلاص في العبادة وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله : بقية عمر المؤمن لا قيمة له يدرك بها ما فأت ويحيي بها ما أمات.