الآيات 38-39

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴿38﴾ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿39﴾

اللغة:

الدابة كل ما يدب من الحيوان وأصله الصفة من دب يدب دبيبا إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو والدبوب والديبوب النمام وفي الحديث لا يدخل الجنة ديبوب ولا قلاع فالديبوب النمام لأنه يدب بالنميمة والقلاع الواشي بالرجل ليقتلعه قال الأزهري تصغير الدابة دويبة الباء مخففة وفيها إشمام الكسر وفي الحديث أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب أراد الأدب فأظهر التضعيف وهو الكثير الوبر وقد دب يدب دبيبا والجناح إحدى ناحيتي الطير اللتين يتمكن بهما من الطيران في الهواء وأصله الميل إلى ناحية.

الإعراب:

من مزيدة وتأويله وما دابة ويجوز في غير القرآن ﴿ولا طائر﴾ بالرفع عطفا على موضع من دابة وقوله ﴿من شيء﴾ من زائدة أيضا وتفيد التعميم أي ما فرطنا شيئا ما وصم وبكم كلاهما خبر الذين كقولهم هذا حلو حامض ودخول الواو لا يمنع من ذلك فإنه بمنزلة قولك صم بكم.

المعنى:

لما بين سبحانه أنه قادر على أن ينزل آية عقبه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحسن تدبيره وحكمته فقال ﴿وما من دابة في الأرض﴾ أي ما من حيوان يمشي على وجه الأرض ﴿ولا طائر يطير بجناحيه﴾ جمع بهذين اللفظين جميع الحيوانات لأنها لا تخلو إما أن تكون مما يطير بجناحيه أو يدب ومما يسأل عنه أن يقال لم قال يطير بجناحيه وقد علم أن الطير لا يطير إلا بالجناح فالجواب أن هذا إنما جاء للتوكيد ورفع اللبس لأن القائل قد يقول طر في حاجتي أي أسرع فيها وقال الشاعر:

قوم إذا الشر أبدى ناجذية لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا وأنشد سيبويه:

فطرت بمنصلي في يعملات

ودوامي الأيد يخبطن السريحا وقيل إنما قال بجناحيه لأن السمك تطير في الماء ولا أجنحة لها وإنما خرج السمك عن الطائر لأنه من دواب البحر وإنما أراد سبحانه ما في الأرض وما في الجو ﴿إلا أمم﴾ أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يشتمل كل صنف على العدد الكثير عن مجاهد ﴿أمثالكم﴾ قيل أنه يريد أشباهكم في إبداع الله إياها وخلقه لها ودلالتها على أن لها صانعا وقيل إنما مثلت الأمم عن غير الناس بالناس في الحاجة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم وأكلهم ولباسهم ونومهم ويقظتهم وهدايتهم إلى مراشدهم إلى ما لا يحصى كثرة من أحوالهم ومصالحهم وأنهم يموتون ويحشرون وبين بهذه الآية أنه لا يجوز للعباد أن يتعدوا في ظلم شيء منها فإن الله خالقها والمنتصف لها ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ أي ما تركنا وقيل معناه ما قصرنا واختلف في معنى الكتاب على أقوال (أحدها) إنه يريد بالكتاب القرآن لأنه ذكر جميع ما يحتاج إليه فيه من أمور الدين والدنيا إما مجملا وإما مفصلا والمجمل قد بينه على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأمرنا باتباعه في قوله ﴿ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ وهذا مثل قوله تعالى ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء﴾ ويروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة فقرأت المرأة التي سمعت ذلك منه جميع القرآن ثم أتته وقالت يا ابن أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة فقال لو تلوتيه لوجدتيه قال الله تعالى ﴿ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ وإن مما أتانا رسول الله أن قال لعن الله الواشمة والمستوشمة وهو قول أكثر المفسرين وهذا القول اختيار البلخي (وثانيها) أن المراد بالكتاب هاهنا الكتاب الذي هو عند الله عز وجل المشتمل على ما كان ويكون وهو اللوح المحفوظ وفيه آجال الحيوان وأرزاقه وآثاره ليعلم ابن آدم أن عمله أولى بالإحصاء والاستقصاء عن الحسن (وثالثها) أن المراد بالكتاب الأجل أي ما تركنا شيئا إلا وقد أوحينا له أجلا ثم يحشرون جميعا عن أبي مسلم وهذا الوجه بعيد ﴿ثم إلى ربهم يحشرون﴾ معناه يحشرون إلى الله بعد موتهم يوم القيامة كما يحشر العباد فيعوض الله تعالى ما يستحق العوض منها وينتصف لبعضها من بعض وفيما رووه عن أبي هريرة أنه قال يحشر الله الخلق يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا فلذلك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا وعن أبي ذر قال بينا أنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذ انتطحت عنزان فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أتدرون فيما انتطحا فقالوا لا ندري قال لكن الله يدري وسيقضي بينهما وعلى هذا فإنما جعلت أمثالنا في الحشر والاقتصاص واختاره الزجاج فقال يعني أمثالكم في أنهم يبعثون ويؤيده قوله ﴿وإذا الوحوش حشرت﴾ ومعنى إلى ربهم إلى حيث لا يملك النفع والضر إلا الله سبحانه إذ لم يمكن منه كما مكن في الدنيا واستدلت جماعة من أهل التناسخ بهذه الآية على أن البهائم والطيور مكلفة لقوله ﴿أمم أمثالكم﴾ وهذا باطل لأنا قد بينا أنها من أي وجه تكون أمثالنا ولو وجب حمل ذلك على العموم لوجب أن تكون أمثالنا في كونها على مثل صورنا وهيأتنا وخلقتنا وأخلاقنا وكيف يصح تكليف البهائم وهي غير عاقلة والتكليف لا يصح إلا مع كمال العقل ﴿والذين كذبوا ب آياتنا﴾ أي بالقرآن وقيل بسائر الحجج والبينات ﴿صم وبكم﴾ قد بينا معناهما في سورة البقرة ﴿في الظلمات﴾ أي في ظلمات الكفر والجهل لا يهتدون إلى شيء من منافع الدين وقيل أراد صم وبكم في الظلمات في الآخرة على الحقيقة عقابا لهم على كفرهم لأنه ذكرهم عند ذكر الحشر عن أبي علي الجبائي ﴿من يشأ الله يضلله﴾ هذا مجمل قد بينه في قوله ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ ﴿ويضل الله الظالمين﴾ ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى﴾ ﴿يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام﴾ والمعنى من يشأ الله يخذله بأن يمنعه ألطافه وفوائده وذلك إذا واتر عليه الأدلة وأوضح له الحجج فأعرض عنها ولم ينعم النظر فيها ويجوز أن يريد من يشأ الله إضلاله عن طريق الجنة ونيل ثوابها يضلله عنه ﴿ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم﴾ أي ومن يشأ أن يرحمه ويهديه إلى الجنة يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة.