الآيات 24-25

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿24﴾ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿25﴾

القراءة:

قرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وزيد بن ثابت وأبو جعفر الباقر (عليه السلام) والربيع بن أنس وأبو العالية لتصبن والقراءة المشهورة ﴿لا تصيبن﴾.

الحجة:

قال ابن جني معنى هاتين القراءتين ضدان كما ترى لأن إحداهما لتصيبن الذين ظلموا خاصة والأخرى لا تصيبنهم ويمكن أن يكون حذفت الألف من لا تصيبن تخفيفا واكتفي بالفتحة منها كما قالوا أم والله ليكونن كذا فحذفوا ألف أما وذهب أبو عثمان في قوله يا أبت بفتح التاء أنه أراد يا أبتا فحذف الألف تخفيفا فإن قلت فهل يجوز أن نحمله على أنه أراد لتصيبن ثم أشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفا كقول عنترة:

ينباع من ذفري غضوب جسرة أراد ينبع ومثله قول ابن هرمة:

فأنت من الغوائل حين ترمي

ومن ذم الرجال بمنتزاح

أي بمنتزح قيل قوله تعالى فيما يليه ﴿واعلموا أن الله شديد العقاب﴾ أشبه بما ذكرناه وأما الوجه في قوله ﴿لا تصيبن﴾ فقد قال الزجاج زعم بعض النحويين إن هذا الكلام جزاء خبر وفيه طرف من النهي فإذا قلت أنزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك فهذا جواب الأمر بلفظ النهي والمعنى أنزل أن تنزل عنه لا تطرحك فإذا أتيت بالنون الخفيفة أو الثقيلة كان أوكد للكلام ومثله قوله تعالى ﴿يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان﴾ والمعنى إن تدخلوا لا يحطمنكم ويجوز أن يكون نهيا بعد أمر فيكون المعنى اتقوا فتنة ثم نهى بعده فقال ﴿لا تصيبن﴾ الفتنة ﴿الذين ظلموا﴾ أي لا تتعرضن الذين ظلموا لما ينزل بهم معه العذاب ويكون بمعنى يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم أنها أمرت بالدخول ثم نهتهم أن يحطمنهم سليمان فقالت لا يحطمنكم سليمان وجنوده فلفظ النهي لسليمان ومعناه للنمل كما تقول لا أرينك هاهنا قال أبو علي أنه حكى القول الأول على جهة احتمال الآية كاحتمالها للقول الثاني فأما القول الثاني فقول أبي الحسن ولا يصح عندنا إلا قول أبي الحسن لأن قوله ﴿لا تصيبن﴾ لا يخلو إما أن يكون جواب شرط ولا يجوز ذلك لأن دخول النون فيه يكون لضرورة الشعر كما أنشده سيبويه:

ومهما تشأ منه فزارة تمنعن وأما أن يكون نهيا بعد أمر فاستغنى عن استعمال حرف العطف معه لاتصال الجملة الثانية بالأولى كما مضى ذكر أمثاله من قوله ﴿ثلاثة رابعهم كلبهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ وهذا هو الصحيح دون الأول قال ومحال أن يكون جواب الأمر بلفظ النهي كما يستحيل أن يكون جواب الشرط بلفظ النهي لأن جواب الأمر في الحقيقة جواب الشرط ولا يجوز أيضا أن يكون اللفظ لفظ النهي والمعنى معنى الجزاء لأن الجزاء خبر فحكمه أن يكون على ألفاظ الأخبار وألفاظ الأخبار لا تجيء على لفظ الأمر إلا فيما علمته من قولهم أكرم به ومما يدل على أنه ليس بجزاء دخول النون فيه والنون لا تدخل في الجزاء لما ذكرنا أنه خبر ولا يجوز دخول النون في الخبر إلا في ضرورة الشعر نحو:

ربما أوفيت في علم

ترفعن ثوبي شمالات.

المعنى:

ثم أمر سبحانه بطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول﴾ أي أجيبوا الله والرسول فيما يأمرانكم به فإجابة الله والرسول طاعتهما فيما يدعوان إليه ﴿إذا دعاكم لما يحييكم﴾ قيل فيه أقوال (أحدها) إن معناه إذا دعاكم إلى الجهاد واللام في معنى إلى قال القتيبي هو الشهادة فإن الشهداء أحياء عند الله تعالى وقال الجبائي أي دعاكم إلى إحياء أمركم وإعزاز دينكم بجهاد عدوكم مع نصر الله إياكم وهو معنى قول الفراء (وثانيها) إن معناه إذا دعاكم إلى الإيمان فإنه حياة القلب والكفر موته عن السدي وقيل إلى الحق عن مجاهد (وثالثها) إن معناه إذا دعاكم إلى القرآن والعلم في الدين لأن الجهل موت والعلم حياة والقرآن سبب الحياة بالعلم وفيه النجاة والعصمة عن قتادة (ورابعها) إن معناه إذا دعاكم إلى الجنة لما فيها من الحياة الدائمة ونعيم الأبد عن أبي مسلم ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾ أي يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت فلا يمكنه استدراك ما فأت فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة ودعوا التسويف عن الجبائي قال وفيه حث على الطاعة قبل حلول المانع وقيل معناه أنه سبحانه أقرب إليه من قلبه وهو نظير قوله ونحن أقرب إليه من حبل الوريد فإن الحائل بين الشيء وغيره أقرب إلى ذلك الشيء من ذلك الغير عن الحسن وقتادة قالا وفيه تحذير شديد وقيل معناه أنه سبحانه يملك تقليب القلوب من حال إلى حال كما جاء في الدعاء يا مقلب القلوب والأبصار فكأنهم خافوا من القتال فأعلمهم سبحانه أنه يبدل خوفهم أمنا بأن يحول بينهم وبين ما يتفكرون فيه من أسباب الخوف وروى يونس بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال أنه يحول بين المرء وقلبه معناه لا يستيقن القلب أن الحق باطل أبدا ولا يستيقن القلب أن الباطل حق أبدا وروى هشام بن سالم عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال معناه يحول بينه وبين أن يعلم أن الباطل حق أوردهما العياشي في تفسيره وقال محمد بن إسحاق معناه لا يستطيع القلب أن يكتم الله شيئا وهذا في معنى قول الحسن ﴿وأنه إليه تحشرون﴾ معناه واعلموا أنكم تحشرون أي تجمعون للجزاء على أعمالكم يوم القيامة إن خيرا فخير وإن شرا فشر ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ حذرهم الله تعالى من هذه الفتنة وأمرهم أن يتقوها فكأنه قال اتقوا فتنة لا تقربوها فتصيبنكم لأن قوله ﴿لا تصيبن﴾ نهي مسوق على الأمر ولفظ النهي واقع على الفتنة وهو في المعنى للمأمورين بالاتقاء كقوله ﴿ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾ أي احذروا أن يدرككم الموت قبل أن تسلموا واختلف في معنى الفتنة هاهنا فقيل هي العذاب أمر الله المؤمنين أن لا يقربوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب والخطاب لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) خاصة عن ابن عباس والجبائي وقيل هي البلية التي يظهر باطن أمر الإنسان فيها عن الحسن قال ونزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وقد قال الزبير لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها فخالفنا حتى أصابتنا خاصة وقيل نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا عن السدي وقيل هي الضلالة وافتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا عن ابن زيد وقيل هي الهرج الذي يركب الناس فيه بالظلم ويدخل ضرره على كل أحد ثم اختلف في إصابة هذه الفتنة على قولين (أحدهما) أنها جارية على العموم فتصيب الظالم وغير الظالم أما الظالمون فمعذبون وأما المؤمنون فممتحنون ممحصون عن ابن عباس وروي أنه سئل عنها فقال أبهموا ما أبهم الله (والثاني) أنها تخص الظالم لأن الغرض منع الناس عن الظلم وتقديره واتقوا عذابا يصيب الظلمة خاصة.

ويقويه قراءة من قرأ لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة باللام فإنه تفسيره على هذا المعنى وقيل إن لا في قوله ﴿لا تصيبن﴾ زائدة ويجوز أن يقال إن الألف في لا لإشباع الفتحة على ما تقدم ذكره قال أبو مسلم تقديره احذروا أن يخص الظالم منكم بعذاب أي لا تظلموا فيأتيكم عذاب لا ينجو منه إلا من زال عنه اسم الظلم ﴿واعلموا أن الله شديد العقاب﴾ لمن لم يتق المعاصي وروى الثعلبي بإسناده عن حذيفة أنه قال أتتكم فتن كقطع الليل المظلم يهلك فيها كل شجاع بطل وكل راكب موضع وكل خطيب مصقع وفي حديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لعمار يا عمار أنه سيكون بعدي هنأت حتى يختلف السيف فيما بينهم وحتى يقتل بعضهم بعضا وحتى يبرأ بعضهم من بعض فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإن سلك الناس كلهم واديا وسلك علي واديا فاسلك وادي علي وخل عن الناس يا عمار أن عليا لا يردك عن هدى ولا يدلك على ردى يا عمار طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة الله رواه السيد أبو طالب الهروي بإسناده عن علقمة والأسود قالا أتينا أبا أيوب الأنصاري الخبر بطوله وفي كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكاني وحدثنا عنه أبو الحمد مهدي بن نزار الحسني حدثني محمد بن القاسم بن أحمد قال حدثنا أبو سعيد محمد بن الفضيل بن محمد قال حدثنا محمد بن صالح العرزمي قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال حدثنا أبو سعيد الأشج عن أبي خلف الأحمر عن إبراهيم بن طهمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية ﴿واتقوا فتنة﴾ قال قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد بنبوتي ونبوة الأنبياء قبلي.