الآيات 5-8
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴿5﴾ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴿6﴾ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴿7﴾ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴿8﴾
اللغة:
المجادلة المنازعة الذي يفتل بها عن مذهب إلى مذهب سميت بذلك لشدته وأصل الجدل شدة الفتل ومنه الأجدل الصقر لشدته وزمام جديل شديد الفتل وقيل أصله من الجدالة وهي الأرض يقال طعنه فجدله أي أوقعه على الأرض فكان المتجادلين يريد كل واحد منهما أن يرمي بخصمه إلى الأرض والسوق الحث على المسير والشوكة الحد يقال ما أشد شوكة بني فلان وفلان شاك في السلاح وشائك وشاك من الشكة وشاك مخفف مثل قولهم كبش صاف كثير الصوف مثل صائف قال الشاعر:
فتوهموني أنني أنا ذاكم
شاك سلاحي في الحوادث معلم
وأصله من الشوك ودابر الأمر آخره ودابر الرجل عقبه والحق وقوع الشيء في موضعه الذي هو له فإذا اعتقد شيء بضرورة أو حجة فهو حق لأنه وقع موقعه الذي هو له وعكسه الباطل.
الإعراب:
الكاف في قوله ﴿كما أخرجك ربك﴾ يتعلق بما دل عليه قوله ﴿قل الأنفال لله والرسول﴾ لأن في هذا معنى نزعها من أيديهم بالحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وقيل تقديره قل الأنفال ثابت لله والرسول ثبوتا مثل ما أخرجك ربك أي هذا كائن لا محالة كما أن ذلك كان لا محالة وقيل إنه يتعلق بيجادلونك وتقديره يجادلونك بالحق كما كرهوا إخراجك من بيتك بالحق وقيل أنه يعمل فيه معنى الحق بتقدير هذا الذكر الحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وقوله ﴿أنها لكم﴾ في موضع نصب على البدل من إحدى الطائفتين وتقديره يعدكم أن إحدى الطائفتين لكم ونظيره قوله ﴿هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم﴾.
المعنى:
﴿كما أخرجك ربك من بيتك﴾ يا محمد على التقدير الأول قل الأنفال لله ينزعها عنكم مع كراهتكم ومشقة ذلك عليكم لأنه أصلح لكم كما أخرجك ربك من بيتك مع كراهة فريق من المؤمنين ذلك لأن الخروج كان أصلح لكم من كونكم في بيتكم والمراد بالبيت هنا المدينة يعني خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) منها إلى بدر ويكون معنى أخرجك ربك دعاك إلى الخروج وأمرك به وحملك عليه كما يقال أضربت زيدا عمرا فضربه وأما على التقدير الثاني وهو أن يكون اتصاله بما بعده فيكون معناه يجادلونك في الحق كارهين له كما جادلوك يا محمد حين أخرجك ربك كارهين للخروج كرهوه كراهية طباع فقال بعضهم كيف نخرج ونحن قليل والعدو كثير وقال بعضهم كيف نخرج على عمياء لا ندري إلى العير نخرج أم إلى القتال فشبه جدالهم بخروجهم لأن القوم جادلوه بعد خروجهم كما جادلوه عند الخروج فقالوا هلا أخبرتنا بالقتال فكنا نستعد لذلك فهذا هو جدالهم على تأويل مجاهد وأما على التقدير الثالث فمعناه أن هذا خير لكم كما أن إخراجك من بيتك على كراهية جماعة منكم خير لكم وقريب منه ما جاء في حديث أبي حمزة الثمالي فالله ناصرك كما أخرجك من بيتك وقوله ﴿بالحق﴾ أي بالوحي وذلك أن جبرائيل (عليه السلام) أتاه وأمره بالخروج وقيل معناه أخرجك ومعك الحق وقيل معناه أخرجك بالحق الذي وجب عليك وهو الجهاد ﴿وإن فريقا من المؤمنين﴾ أي طائفة منهم ﴿لكارهون﴾ لذلك للمشقة التي لحقتهم ﴿يجادلونك في الحق بعد ما تبين﴾ معناه يجادلونك فيما دعوتهم إليه بعد ما عرفوا صحته وصدقك بما ظهر عليك من المعجزات ومجادلتهم قولهم هلا أخبرتنا بذلك وهم يعلمون أنك لا تأمرهم عن الله إلا بما هو حق وصواب وكانوا يجادلون فيه لشدته عليهم يطلبون بذلك رخصة لهم في التخلف عنه أو في تأخير الخروج إلى وقت آخر وقيل معناه يجادلونك في القتال يوم بدر بعد ما تبين صوابه وأنه مأمور به عن ابن عباس وقيل بعد ما تبين أنك يا محمد لا تصنع إلا ما أمرك الله به ﴿كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون﴾ معناه كان هؤلاء الذين يجادلونك في لقاء العدو لشدة القتال عليهم حيث لم يكونوا مستعدين له ولكراهتهم له من حيث الطبع كانوا بمنزلة من يساق إلى الموت وهم يرونه عيانا وينظرون إليه وإلى أسبابه ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم﴾ يعني واذكروا واشكروا الله إذ يعدكم الله إن إحدى الطائفتين لكم إما العير وإما النفير ﴿وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم﴾ أي تودون أن يكون لكم العير وصاحبها أبو سفيان بن حرب لئلا تلحقكم مشقة دون النفير وهو الجيش من قريش قال الحسن كان المسلمون يريدون العير ورسول الله يريد ذات الشوكة كنى بالشوكة عن الحرب لما في الحرب من الشدة عن قطرب وقيل ذات الشوكة ذات السلاح ﴿ويريد الله أن يحق الحق بكلماته﴾ معناه والله أعلم بالمصالح منكم فأراد أن يظهر الحق بلطفه ويعز الإسلام ويظفركم على وجوه قريش ويهلكهم على أيديكم بكلماته السابقة وعداته في قوله ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وقوله ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وقيل بكلماته أي بأمره لكم بالقتال ﴿ويقطع دابر الكافرين﴾ أي يستأصلهم فلا يبقي منهم أحدا يعني كفار العرب ﴿ليحق الحق﴾ أي إنما يفعل ذلك ليظهر الإسلام ﴿ويبطل الباطل﴾ أي الكفر بإهلاك أهله ﴿ولو كره المجرمون﴾ أي الكافرون وذكر البلخي عن الحسن أن قوله ﴿وإذ يعدكم الله﴾ الآية نزلت قبل قوله ﴿كما أخرجك ربك من بيتك بالحق﴾ وهي في القراءة بعدها.
قصة غزاة بدر:
قال أصحاب السير وذكر أبو حمزة وعلي بن إبراهيم في تفسيرهما دخل حديث بعضهم في بعض أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام وفيها أموالهم وهي اللطيمة وفيها أربعون راكبا من قريش فندب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أصحابه للخروج إليها ليأخذوها وقال لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم ولم يظنوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يلقي كيدا ولا حربا فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب لا يرونها إلا غنيمة لهم فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد تعرض لغيرهم في أصحابه فخرج ضمضم سريعا إلى مكة وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليال أن رجلا أقبل على بعير له ينادي يا آل غالب اغدوا إلى مصارعكم ثم وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة من ذلك وأخبرت العباس بذلك فأخبر العباس عتبة بن ربيعة فقال عتبة هذه مصيبة تحدث في قريش وفشت الرؤيا فيهم وبلغ ذلك أبا جهل فقال هذه نبية ثانية في بني عبد المطلب واللات والعزى لننظرن ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقا وإلا لنكتبن كتابا بيننا أنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ونساء من بني هاشم فلما كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت يا آل غالب يا آل غالب اللطيمة اللطيمة العير العير أدركوا وما أراكم تدركون أن محمدا والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم فتهياوا للخروج وما بقي أحد من عظماء قريش إلا أخرج مالا لتجهيز الجيش وقالوا من لم يخرج نهدم داره وخرج معهم العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحرث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وأخرجوا معهم القيان يضربون الدفوف وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فلما كان بقرب بدر أخذ عينا للقوم فأخبره بهم وفي حديث أبي حمزة بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أيضا عينا له على العير اسمه عدي فلما قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأخبره أين فارق العير نزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأخبره بنفير المشركين من مكة فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت ولا ذلت منذ عزت ولم تخرج على هيئة الحرب وفي حديث أبي حمزة قال أبو بكر أنا عالم بهذا الطريق فارق عدي العير بكذا وكذا وساروا وسرنا فنحن والقوم على ماء بدر يوم كذا وكذا كانا فرسا رهان فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) اجلس فجلس ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) اجلس فجلس ثم قام المقداد فقال يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها وقد آمنا بك وصدقنا وشهدنا أن ما جئت به حق والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (عليه السلام) اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكنا نقول امض لأمر ربك فأنا معك مقاتلون فجزاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) خيرا على قوله ذاك ثم قال أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار لأن أكثر الناس منهم ولأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا إنا براء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ثم أنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع أبناءنا ونساءنا فكان (صلى الله عليه وآله وسلّم) يتخوف أن لا يكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدو أن ليس عليهم أن ينصروه خارج المدينة فقام سعد بن معاذ فقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا فقال نعم قال بأبي أنت وأمي يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت واترك منها ما شئت والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ولعل الله عز وجل أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقال سيروا على بركة الله فإن الله عز وجل قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالرحيل وخرج إلى بدر وهو بئر وفي حديث أبي حمزة الثمالي بدر رجل من جهينة والماء ماؤه فإنما سمي الماء باسمه وأقبلت قريش وبعثوا عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقالوا لهم من أنتم قالوا نحن عبيد قريش قالوا فأين العير قالوا لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يصلي فانفتل من صلاته وقال إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم فأتوه بهم فقال لهم من أنتم قالوا يا محمد نحن عبيد قريش قال كم القوم قالوا لا علم لنا بعددهم قال كم ينحرون في كل يوم من جزور قالوا تسعة إلى عشرة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) القوم تسعمائة إلى ألف رجل وأمر (صلى الله عليه وآله وسلّم) بهم فحبسوا وبلغ ذلك قريشا ففزعوا وندموا على مسيرهم ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام فقال أ ما ترى هذا البغي والله ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا والله ما أفلح قوم بغوا قط ولوددت أن ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير فقال له أبو البختري إنك سيد من سادات قريش فسر في الناس وتحمل العير التي أصابها محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرمي فإنه حليفك فقال له علي ذلك وما على أحد منا خلاف إلا ابن الحنظلية يعني أبا جهل فصر إليه وأعلمه أني حملت العير ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعلي عقله قال فقصدت خباءه وأبلغته ذلك فقال أن عتبة يتعصب لمحمد فإنه من بني عبد مناف وابنه معه يريد أن يخذل بين الناس لا واللات والعزى حتى نقحم عليهم يثرب أو نأخذهم أسارى فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك وكان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكان أبو سفيان لما جاز بالعير بعث إلى قريش قد نجى الله عيركم فارجعوا ودعوا محمدا والعرب وادفعوه بالراح ما اندفع وإن لم ترجعوا فردوا القيان فلحقهم الرسول في الجحفة فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم وردوا القيان من الجحفة قال وفزع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما بلغهم كثرة قريش واستغاثوا وتضرعوا فأنزل الله سبحانه إذ تستغيثون ربكم وما بعده.