الآيات 1-3

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ﴿1﴾ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ﴿2﴾ وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴿3﴾

اللغة:

العدل خلاف الجور وعدلت به غيره أي سويته به وعدلت عنه أي أعرضت وعدلت الشيء فاعتدل أي قومته فاستقام والأجل الوقت المضروب لانقضاء الأمد فأجل الإنسان وقت انقضاء عمره وأجل الدين محله وهو وقت انقضاء التأخير وأصله التأخير يقال أجله تأجيلا وعجله تعجيلا والآجل نقيض العاجل والامتراء الشك وأصله من مرأت الناقة إذا مسحت ضرعها لاستخراج اللبن ومنه ماراه يماريه مراء ومماراة إذا استخرج ما عنده بالمناظرة فالامتراء استخراج الشبهة المشكلة من غير حل.

المعنى:

بدأ الله تعالى هذه السورة بالحمد لنفسه إعلاما بأنه المستحق لجميع المحامد لأن أصول النعم وفروعها منه تعالى ولأن له الصفات العلى فقال ﴿الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض﴾ يعني اخترعهما بما اشتملا عليه من عجائب الصنعة وبدائع الحكمة وقيل إنه في لفظ الخبر ومعناه الأمر أي احمدوا الله وإنما جاء على صيغة الخبر وإن كان فيه معنى الأمر لأنه أبلغ في البيان من حيث أنه يجمع الأمرين وقد ذكرنا من معنى الحمد لله وتفسيره في الفاتحة ما فيه كفاية ﴿وجعل الظلمات والنور﴾ يعني الليل والنهار عن السدي وجماعة من المفسرين وقيل الجنة والنار عن قتادة وإنما قدم ذكر الظلمات لأنه خلق الظلمة قبل النور وكذلك خلق السماوات قبل الأرض ثم عجب سبحانه ممن جعل له شريكا مع ما يرى من الآيات الدالة على وحدانيته فقال ﴿ثم الذين كفروا﴾ أي جحدوا الحق ﴿بربهم يعدلون﴾ أي يسوون به غيره بأن جعلوا له أندادا مأخوذ من قولهم ما أعدل بفلان أحدا أي لا نظير له عندي وقيل معنى يعدلون يشركون به غيره عن الحسن ومجاهد ودخول ثم في قوله ﴿ثم الذين كفروا﴾ دليل على معنى لطيف وهو أنه سبحانه أنكر على الكفار العدل به وعجب المؤمنين من ذلك ومثله في المعنى قوله فيما بعد ﴿ثم أنتم تمترون﴾ والوجه في التعجيب أن هؤلاء الكفار مع اعترافهم بأن أصول النعم منه وأنه هو الخالق والرازق عبدوا غيره ونقضوا ما اعترفوا به وأيضا فإنهم عبدوا ما لا ينفع ولا يضر من الحجارة والموات ﴿هو الذي خلقكم من طين﴾ يعني به آدم والمعنى أنشأ أباكم واخترعه من طين وأنتم من ذريته فلما كان آدم أصلنا ونحن من نسله جاز أن يقول لنا خلقكم من طين ﴿ثم قضى أجلا﴾ أي كتب وقدر أجلا والقضاء يكون بمعنى الحكم وبمعنى الأمر وبمعنى الخلق وبمعنى الإتمام والإكمال ﴿وأجل مسمى عنده﴾ قيل فيه أقوال (أحدها) أنه يعني بالأجلين أجل الحياة إلى الموت وأجل الموت إلى البعث وقيام الساعة عن الحسن وسعيد بن المسيب وقتادة والضحاك واختاره الزجاج وروى أيضا عطاء عن ابن عباس قال قضى أجلا من مولده إلى مماته وأجل مسمى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه فإذا كان الرجل صالحا واصلا لرحمه زاد الله له في أجل الحياة ونقص من أجل الممات إلى البعث وإذا كان غير صالح ولا واصل نقصه الله من أجل الحياة وزاد في أجل المبعث قال وذلك قوله وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب (وثانيها) أنه الأجل الذي يحيا به أهل الدنيا إلى أن يموتوا وأجل مسمى عنده يعني الآخرة لأنه أجل دائم ممدود لا آخر له وإنما قال مسمى عنده لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ في السماء وهو الموضع الذي لا يملك فيه الحكم على الخلق سواه عن الجبائي وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد (وثالثها) أن أجلا يعني به أجل من مضى من الخلق وأجل مسمى عنده يعني به آجال الباقين عن أبي مسلم (ورابعها) أن قوله قضى أجلا عنى به النوم يقبض الروح فيه ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة وأجل مسمى عنده هو أجل موت الإنسان وهو المروي عن ابن عباس ويؤيده قوله ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى والأصل في الأجل هو الوقت فأجل الحياة هو الوقت الذي يكون فيه الحياة وأجل الموت أو القتل هو الوقت الذي يحدث فيه الموت أو القتل وما يعلم الله تعالى أن المكلف يعيش إليه لو لم يقتل لا يسمى أجلا حقيقة ويجوز أن يسمى ذلك مجازا وما جاء في الأخبار من أن صلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تزيد في الأجل وأن الله تعالى زاد في أجل قوم يونس وما أشبه ذلك فلا مانع من ذلك وقوله ﴿ثم أنتم تمترون﴾ خطاب للكفار الذين شكوا في البعث والنشور واحتجاج عليهم بأنه سبحانه خلقهم ونقلهم من حال إلى حال وقضى عليهم الموت وهم يشاهدون ذلك ويقرون بأنه لا محيص منه ثم بعد هذا يشكون ويكذبون بالبعث ومن قدر على ابتداء الخلق فلا ينبغي أن يشك في أنه يصح منه إعادتهم وبعثهم.

الإعراب:

هو الأشبه أن يكون ضمير القصة والحديث وتقديره الأمر الله يعلم في السماوات وفي الأرض سركم وجهركم فالله مبتدأ ويعلم خبره وفي السماوات وفي الأرض في موضع النصب بيعلم وسركم مفعوله أيضا ولا يكون الظرف الذي هو الجار والمجرور منصوب الموضع بالمصدر وإن جعلنا الظرف متعلقا باسم الله جاز في قياس قول من قال إن أصل الله الإلاه فيكون المعنى هو المعبود في السماوات وفي الأرض يعلم وتقديره الأمر المعبود في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ومن جعل اسم الله بمنزلة أسماء الأعلام فلا يجوز أن يتعلق الظرف به إلا أن يقدر فيه ضربا من معنى الفعل ويجوز أن يكون هو مبتدأ والله خبره والعامل في قوله ﴿في السماوات وفي الأرض﴾ اسم الله على ما قلناه ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر.

المعنى:

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم﴾ فيه وجوه على ما ذكرناه في الإعراب فعلى التقدير الأول يكون معناه الله يعلم في السماوات وفي الأرض سركم وجهركم ويكون الخطاب لجميع الخلق لأن الخلق إما أن يكونوا ملائكة فهم في السماء أو بشرا أو جنا فهم في الأرض فهو سبحانه عالم بجميع أسرارهم وأحوالهم ومتصرفاتهم لا يخفى عليه منها شيء ويقويه قوله ﴿ويعلم ما تكسبون﴾ أي يعلم جميع ما تعلمونه من الخير والشر فيجازيكم على حسب أعمالكم وعلى التقدير الثاني يكون معناه أن المعبود في السماوات وفي الأرض أو المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم فلا تخفى عليه منكم خافية ويكون الخطاب لبني آدم وإن جعلت اسم الله علما على هذا التقدير ثم علقت به قوله ﴿في السماوات وفي الأرض﴾ لم يجز وإن علقته بمحذوف يكون خبر الله أو حالا عنه أوهم بأن يكون البارىء سبحانه في محل تعالى عن ذلك علوا كبيرا وقال أبو بكر السراج أن الله وإن كان اسما علما ففيه معنى الثناء والتعظيم الذي يقرب بهما من الفعل فيجوز أن يوصل لذلك بالمحل وتأويله وهو المعظم أو نحو ذا في السماوات وفي الأرض ثم قال يعلم سركم وجهركم ومثل ذلك قوله سبحانه وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله قال الزجاج فلو قلت هو زيد في البيت والدار لم يجز إلا أن يكون في الكلام دليل على أن زيدا يدبر أمر البيت والدار فيكون المعنى هو المدبر في البيت والدار ولو قلت هو المعتضد والخليفة في الشرق والغرب أو قلت هو المعتضد في الشرق والغرب جاز وعلى مقتضى ما قاله أبو بكر والزجاج يكون في متعلقة بما دل عليه اسم الله ويكون هو الله مبتدأ وخبرا والمعنى وهو المنفرد بالإلهية في السماوات وفي الأرض لا إله فيهما غيره ولا مدبر لهما سواه وإن جعلت في السماوات خبرا بعد خبر فيكون التقدير وهو الله وهو في السماوات وفي الأرض يعني أنه في كل مكان فلا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان ثم أخبر سبحانه عن هذا المعنى مبينا لذلك مؤكدا له بقوله ﴿يعلم سركم وجهركم﴾ أي الخفي المكتوم والظاهر المكشوف منكم ﴿ويعلم ما تكسبون﴾ والمعنى يعلم نياتكم وأحوالكم وأعمالكم وهذا الترتيب الذي ذكرته في معاني هذه الآية التي استنبطتها من وجوه الإعراب مما لم أسبق إليه وهو في استقامة فصوله ومطابقة أصول الدين كما تراه لا غبار عليه وفيه دلالة على فساد قول من يقول بأن الله تعالى في مكان دون مكان تعالى عن ذلك وتقدس وفي قوله ﴿يعلم سركم وجهركم﴾ دلالة على أنه عالم لنفسه لأن من كان عالما بعلم لا يصح ذلك منه.