الآيات 150-151

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿150﴾ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿151﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وأهل الكوفة عن عاصم ابن أم بالكسر هاهنا وفي طه وقرأ الباقون ﴿ابن أم﴾ نصبا في الموضعين وروي في الشواذ عن مجاهد فلا تشمت بفتح التاء والميم، الأعداء بالنصب وروي عن مجاهد أيضا فلا يشمت بالياء.

الحجة:

من قرأ ﴿ابن أم﴾ بالفتح فلكثرة استعمالهم هذا الاسم قالوا يا ابن أم ويا ابن عم جعلوهما اسما واحدا نحو خمسة عشر قال سيبويه قالوا يا ابن أم ويا ابن عم فجعلوا ذلك بمنزلة اسم لأن هذا أكثر في كلامهم من يا ابن أبي ويا غلام غلامي ومن العرب من يقول يا ابن أمي بإثبات الياء قال الشاعر:

يا ابن أمي ويا شقيق نفسي

أنت خليتني لدهر شديد ولأمر شديد

قال أبو علي بني الاسمان على الفتح والفتحة في ابن ليست النصبة التي كانت تكون في الاسم المضاف المنادى لكن بني على الحركة التي كانت تكون للإعراب كما أن قولهم لا رجل كذلك وكما أن مكانك إذا أردت به الأمر لا تكون الفتحة فيه الفتحة التي كانت فيه وهو ظرف ولكنه على حد الفتحة في رويدك فإن قال قائل فلم لا تقول أنها نصبته والمراد يا ابن أما فحذفت الألف كما حذفت ياء الإضافة في غلامي قيل له ليس هذا مثله أ لا ترى أن من حذف الياء من يا غلام أثبتها في يا غلام غلامي فلو كانت الألف مقدرة في يا ابن أم لم يكن تحذف كما لم تحذف في قوله:

يا بنت عما لا تلومي واهجعي

فالألف لا يحذف حيث يحذف الياء أ لا ترى أن من قال ما كنا نبغ والليل إذا يسر فحذف الياء من الفواصل وما أشبه الفواصل من الكلام التام لم يكن عنده في نحو قوله ﴿والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى﴾ إلا الإثبات فإن قلت فقد حذف الألف في نحو قوله:

رهط ابن مرحوم ورهط ابن المعل يريد المعلى وأنشد أبو الحسن:

فلست بمدرك ما فأت مني

بلهف ولا بليت ولا لو أني يريد بلهفى فحذف الألف فالقول فيه أن ذلك في الشعر ولا يكون في الاختيار وحال السعة ولا ينبغي أن يحمل قوله ﴿ابن أم﴾ على هذا وقياس من أجاز ذلك أن تكون فتحة الابن نصبة والفتحة في أم ليست كالتي في عشر من خمسة عشر ولكن مثل الفتحة التي في الميم من يا بنت عما قال الزجاج ومن قرأ ابن أم بالكسر فإنه أضافه إلى نفسه بعد أن جعله اسما واحدا.

اللغة:

الأسف الغضب الذي فيه تأسف على فوت ما سلف والأسف الحزن والتلهف أيضا ويقال خلفه يخلفه بما يجب وبما يكره إذا عمل خلفه ذلك العمل والعجلة التقدم بالشيء قبل وقته والسرعة عمله في أول وقته ولذلك صارت العجلة مذمومة ويقال عجلته أي سبقته وأعجلته استحثثته والشماتة سرور العدو بسوء العاقبة يقال شمت به شماتة وأشمته إشماتا.

عرضه لتلك الحال.

الإعراب:

غضبان منصوب على الحال وهو فعلان مؤنثه فعلى نحو غضبان وغضبى ولا ينصرف لأن فيه الألف والنون المضارعتين لألفي التأنيث في حمراء.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عما فعله موسى (عليه السلام) حين رجع من مناجاة ربه ورأى عكوف قومه على عبادة العجل فقال ﴿ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا﴾ أي حزينا عن ابن عباس وقيل الأسف الشديد الغضب عن أبي الدرداء وقيل معنى الغضب والأسف واحد وإنما كررها للتأكيد واختلاف اللفظين كما قال الشاعر:

متى أدن منه ينأ عني ويبعد

عن أبي مسلم وقيل معناه غضبان على قومه إذ عبدوا العجل أسفا حزينا متلهفا على ما فاته من مناجاة ربه ﴿قال بئسما خلفتموني من بعدي﴾ أي بئسما عملتم خلفي وبئس الفعل فعلكم بعد ذهابي إلى ميقات ربي ﴿أعجلتم أمر ربكم﴾ أي ميعاد ربكم فلم تصبروا له عن ابن عباس ونحو هذا قال الحسن وعد ربكم الذي وعدني من الأربعين ليلة وذلك أنهم قدروا أنه قد مات لما لم يأت على رأس ثلاثين ليلة وقيل أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم عن الكلبي وقيل معناه استعجلتم وعد الله وثوابه على عبادته فلما لم تنالوه عدلتم إلى عبادة غيره عن أبي علي الجبائي ﴿وألقى الألواح﴾ معناه أنه ألقاها لما دخله من شدة الغضب والجزع على عبادة قومه العجل عن ابن عباس وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال يرحم الله أخي موسى (عليه السلام) ليس المخبر كالمعاين لقد أخبره الله بفتنة قومه وقد عرف أن ما أخبره ربه حق وأنه على ذلك لمتمسك بما في يديه فرجع إلى قومه ورآهم فغضب وألقى الألواح وقد تقدم ذكر ما قيل في الألواح ﴿وأخذ برأس أخيه﴾ يعني هارون ﴿يجره إليه﴾ قيل في معناه وجوه (أحدها) أن موسى (عليه السلام) إنما فعل ذلك مستعظما لفعلهم مفكرا فيما كان منهم كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب وشدة الفكر فيقبض على لحيته ويعض على شفته فأجرى موسى (عليه السلام) أخاه هارون مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان بنفسه عند حالة الغضب والفكر عن أبي علي الجبائي وهذا من الأمور التي تختلف أحكامها بالعادات فيكون ما هو إكرام في موضع استخفافا في غيره ويكون ما هو استخفاف في موضع إكراما في آخر (وثانيها) أنه (عليه السلام) أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه لإكباره منهم ما صاروا إليه من الكفر والارتداد فصدر ذلك منه للتألم بضلالهم وأعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال ذكره الشيخ المفيد أبو عبد الله بن النعمان (وثالثها) أنه إنما جره إلى نفسه ليناجيه ويستبرىء حال القوم منه ولهذا أظهر هارون براءة نفسه ولما أظهر هارون براءته دعا له ولنفسه (ورابعها) أنه لما رأى بهارون مثل ما به من الجزع والقلق أخذ برأسه متوجعا له مسكنا فكرة هارون أن يظن الجهال ذلك استخفافا فأظهر براءته ودعا له موسى إزالة للتهمة (وخامسها) أنه أنكر على هارون ما بينه في طه من قوله ﴿ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن﴾ الآية عن أبي مسلم ﴿قال﴾ يعني قال هارون ﴿ابن أم﴾ قال الحسن والله لقد كان أخاه لأبيه وأمه إلا أنه إنما نسبه إلى الأم لأن ذكر الأم أبلغ في الاستعطاف ﴿إن القوم استضعفوني﴾ يعني أن القوم الذين تركتني بين أظهرهم اتخذوني ضعيفا ﴿وكادوا يقتلونني﴾ أي هموا بقتلي وقرب أن يقتلوني لشدة إنكاري عليهم ﴿فلا تشمت بي الأعداء﴾ أي لا تسرهم بأن تفعل ما يوهم ظاهره خلاف التعظيم ﴿ولا تجعلني مع القوم الظالمين﴾ أي لا تجعلني مع عبدة العجل ومن جملتهم في إظهار الغضب والموجدة علي ﴿قال﴾ موسى حين تبين له ما نبهه هارون عليه من خوف التهمة ودخول الشبهة على القوم ﴿رب اغفر لي ولأخي﴾ وهذا على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه والتقرب إليه لا أنه كان وقع منه أو من أخيه قبيح كبير أو صغير يحتاج أن يستغفر منه فإن الدليل قد دل على أن الأنبياء لا يجوز أن يقع منهم شيء من القبيح وقيل أنه (عليه السلام) بين بهذا لبني إسرائيل أنه لم يجر رأسه إليه لعصيان وجد منه وإنما فعله كما يفعل الإنسان بنفسه عند شدة غضبه على غيره عن الجبائي ﴿وأدخلنا في رحمتك﴾ أي نعمتك وجنتك ﴿وأنت أرحم الراحمين﴾ ظاهر المعنى وإنما يذكر في آخر الدعاء لبيان شدة الرجاء من جهته فإن الابتداء بالنعمة يوجب الإتمام وسعة الرحمة تقتضي الزيادة فيها فيقال أرحم الراحمين لاستدعاء الرحمة من جهته كما يقال أجود الأجودين لاستدعاء الجود من قبله.