الآيـة 54

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿54﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو بارئكم ويأمركم وينصركم باختلاس الحركة وروي عنه السكون أيضا والباقون بغير اختلاف ولا تخفيف.

الحجة:

قال أبو علي حروف المعجم على ضربين ساكن ومتحرك والساكن على ضربين (أحدهما) ما أصله السكون في الاستعمال والآخر ما أصله الحركة فما أصله الحركة يسكن على ضربين (أحدهما) أن تكون حركة بناء والآخر أن تكون حركة إعراب وحركة البناء تسكن على ضربين (أحدهما) أن يكون الحرف المسكن من كلمة مفردة نحو فخذ وسبع وإبل وضرب وعلم فمن خفف قال فخذ وسبع وإبل وضرب وعلم والآخر أن يكون من كلمتين فيسكن على تشبيه المنفصل بالمتصل نحو قراءة من قرأ ويخش الله ويتقه ومنه قول العجاج:

فبات منتصبا وما تكردسا

ألا ترى أن تقه من يتقه مثل كتف

ومنه قول الشاعر:

قالت سليمى اشتر لنا سويقا

ولا خلاف في تجويز إسكان حركة البناء في نحو ما ذكرناه من قول العرب والنحويين وأما حركة الإعراب فمختلف في تجويز إسكانها فمن الناس من يقول إن إسكانها لا يجوز من حيث كان علما للإعراب وأما سيبويه فيجوز ذلك لا يفصل بين القبيلتين وروي قول امرىء القيس:

فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل

وقول الآخر:

وقد بدا هنك من الميزر

ومن هذا النحو قول جرير:

سيروا بني العم فالأهواز منزلكم

ونهر تيري ولا تعرفكم العرب

فشبه ما يدخل على المعرب بما يدخل على المبني كما شبهوا حركات البناء بحركات الإعراب فمن ثم أدغم نحو رد وفر وعض كما أدغموا نحو يرد ويفر ويعض واعلم أن الحركات التي تكون للبناء والإعراب قد يستعملون في الضمة والكسرة منها الاختلاس والتخفيف كما يستعملون الإشباع والتمطيط فأما الفتحة فليس فيها الإشباع فقط ولم يخفف نحو جبل كما خفف مثل سبع وكتف وعلى هذا المذهب حمل سيبويه قول أبي عمرو إلى بارئكم فذهب إلى أنه اختلس الحركة ولم يشبعها فهو بزنة حرف متحرك فمن روي عن أبي عمرو الإسكان في هذا النحو فلعله سمعه يختلس فحسبها إسكانا لضعف الصوت به والخفاء وعلى هذا قوله ولا يأمركم وغيره.

اللغة:

البارىء هو الخالق الصانع وبرأ الله الخلق يبرؤهم برءا أي خلقهم قال أمية ابن أبي الصلت:

الخالق البارىء المصور في الأرحام

ماء حتى يصير دما

والفرق بين البارىء والخالق أن البارىء هو المبدىء المحدث والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال وبرأ من المرض يبرأ برءا فهو بارىء والبراءة من العيب والمكروه لا يقال منه إلا بريء بالكسر وفاعله بريء ورجل براء بمعناه وامرأة براء ونسوة براء وأما قوله إنا برءآؤا فهو جمع بريء وأصل الباب انفصال الشيء من الشيء ومنه برأ الله الخلق أي فطرهم كأنهم انفصلوا من العدم إلى الوجود والبرية فعيلة بمعنى مفعول ولا تهمز كما لا يهمز ملك وإن كان أصله الهمزة وقيل البرية مشتقة من البري وهو التراب فلذلك لم يهمز وقيل مأخوذة من بريت العود فذلك لم يهمز والقتل والذبح والموت نظائر والفرق بينهما أن القتل نقض بنية الحياة والذبح فري الأوداج والموت عند من أثبته عرض يضاد الحياة والقتل العدو وجمعه أقتال والقتال النفس وناقة ذات قتال إذا كانت وثيقة وقتلت الشيء علما إذا أيقنته وتحققته وفي المثل قتلت أرض جاهلها وقتل أرضا عالمها وتقتلت الجارية للفتى حتى عشقها كأنها خضعت له قال:

تقتلت لي حتى إذا ما قتلتني

تنسكت ما هذا بفعل النواسك.

الإعراب:

﴿يا قوم﴾ القراءة بكسر الميم وهو الاختيار لأنه منادى مضاف والندا باب حذف فحذف الياء لأنه حرف واحد وهو في آخر الاسم كما أن التنوين في آخره وبقيت الكسرة تدل عليه ولما كان ياء الإضافة قد تحذف في غير النداء لزم حذفه في النداء ويجوز في الكلام أربعة وجوه ﴿يا قوم﴾ كما قرىء ولا يجوز غيره في القرآن لأن القراءة سنة متبعة ويجوز يا قومي إنكم بإثبات الياء وإسكانه ويجوز يا قومي بإثبات الياء وتحريكه فهذه ثلاثة أوجه في الإضافة ويجوز يا قوم على أنه منادى مفرد وأما قوله ﴿يا ليت قومي﴾ فإن الياء ثبتت فيه لأنه لم يلحقه ما يوجب حذفه كما لحق في النداء.

المعنى:

﴿و﴾ اذكروا ﴿إذ قال موسى لقومه﴾ الذين عبدوا العجل عند رجوعه إليهم ﴿يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم﴾ أي أضررتم بأنفسكم ووضعتم العبادة غير موضعها ﴿باتخاذكم العجل﴾ معبودا وظلمهم إياها فعلهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه مما يستحق به العقاب وكذلك كل من فعل فعلا يستحق به العقاب فهو ظالم لنفسه ﴿فتوبوا إلى ربكم﴾ أي ارجعوا إلى خالقكم ومنشئكم بالطاعة والتوحيد وجعل توبتهم الندم مع العزم وقتل النفس جميعا وهنا إضمار باختصار كأنه لما قال لهم ﴿فتوبوا إلى بارئكم﴾ قالوا كيف قال ﴿فاقتلوا أنفسكم﴾ أي ليقتل بعضكم بعضا بقتل البريء المجرم عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم وهذا كقوله سبحانه ﴿فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم﴾ أي ليسلم بعضكم على بعض وقيل معناه استسلموا للقتل فجعل استسلامهم للقتل قتلا منهم لأنفسهم على وجه التوسع عن ابن إسحاق واختاره الجبائي واختلفوا في المأمور بالقتل فروي أن موسى أمرهم أن يقوموا صفين فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم وجاء هارون باثني عشر ألفا ممن لم يعبدوا العجل ومعهم الشفار المرهفة وكانوا يقتلونهم فلما قتلوا سبعين ألفا تاب الله على الباقين وجعل قتل الماضين شهادة لهم وقيل أن السبعين الذين كانوا مع موسى في الطور هم الذين قتلوا ممن عبد العجل سبعين ألفا وقيل أنهم قاموا صفين فجعل يطعن بعضهم بعضا حتى قتلوا سبعين ألفا وقيل غشيتهم ظلمة شديدة فجعل بعضهم يقتل بعضا ثم انجلت الظلمة فأجلوا عن سبعين ألف قتيل وروي أن موسى وهارون وقفا يدعوان الله ويتضرعان إليه وهم يقتل بعضهم بعضا حتى نزل الوحي برفع القتل وقبلت توبة من بقي وذكر ابن جريج أن السبب في أمرهم بقتل أنفسهم أن الله تعالى علم أن ناسا منهم ممن لم يعبد العجل لم ينكروا عليهم ذلك مخافة القتل مع علمهم بأن العجل باطل فذلك ابتلاهم الله بأن يقتل بعضهم بعضا وإنما امتحنهم الله تعالى بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات والآيات العظام وقال الرماني لا بد أن يكون في الأمر بالقتل لطف لهم ولغيرهم كما يكون في استسلام القاتل لطف له ولغيره فإن قيل كيف يكون في قتلهم نفوسهم لطف لهم ولا تكليف عليهم بعد القتل واللطف لا يكون لطفا فيما مضى ولا فيما يقارنه فالجواب أن القوم إذا كلفوا أن يقتل بعضهم بعضا فكل واحد منهم يقصد قتل غيره ويجوز أن يبقى بعده فيكون القتل لطفا له فيما بعد ولو كان بمقدار زمان يفعل فيه واجبا أو يمتنع عن قبيح وهذا كما تقول في عباداتنا بقتال المشركين وأن الله تعبدنا بأن نقاتل حتى نقتل أو نقتل ومدحنا على ذلك وكذلك روى أهل السير أن الذين عبدوا العجل تعبدوا بأن يصبروا على القتل حتى يقتل بعضهم بعضا فكان القتل شهادة لمن قتل وتوبة لمن بقي وإنما تكون شبهة لو أمروا بأن يقتلوا نفوسهم بأيديهم ولو صح ذلك لم يمتنع أن يكونوا أمروا بأن يفعلوا بنفوسهم الجراح التي تفضي إلى الموت وإن لم يزل معها العقل فينا في التكليف وأما على القول الآخر أنهم أمروا بالاستسلام للقتل والصبر عليه فلا مسألة لأنهم ما أمروا بقتل نفوسهم فعلى هذا يكون قتلهم حسنا لأنه لو كان قبيحا لما أمروا بالاستسلام له ولذلك نقول لا يجوز أن يتعبد نبي ولا إمام بأن يستسلم للقتل مع قدرته على الدفع عن نفسه فلا يدفعه لأن في ذلك استسلاما للقبيح مع القدرة على دفعه وذلك لا يجوز وإنما كان يقع قتل الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) على وجه الظلم وارتفاع التمكن من المنع غير أنه لا يمتنع من أن يتعبد بالصبر على الدفاع وتحمل المشقة في ذلك وإن قتله غيره ظلما والقتل وإن كان قبيحا بحكم العقل فهو مما يجوز تغيره بأن يصير حسنا لأنه جار مجرى سائر الآلام وليس يجري ذلك مجرى الجهل والكذب في أنه لا يصير حسنا قط ووجه الحسن في القتل أنه لطف على ما قلناه وأيضا فكما يجوز من الله تعالى أن يميت الحي فكذلك يجوز أن يأمرنا بإماتته ويعوضه على الآلام التي تدخل عليه ويكون فيه لطف على ما ذكرناه وقوله ﴿ذلكم خير لكم عند بارئكم﴾ إشارة إلى التوبة مع القتل لأنفسهم على ما أمرهم الله به بدلالة قوله ﴿فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم﴾ فقوله ﴿توبوا﴾ دال على التوبة فكأنها مذكورة وقوله ﴿فاقتلوا﴾ دال على القتل فكأنه قال أن التوبة وقتل النفس في مرضاة الله كما أمركم به وإن كان فيه مشقة عظيمة خير لكم عند خالقكم من إيثار الحياة الدنيا لأن الحياة الدنيا لا تبقى بل تفنى وتحصلون بعد الحياة على عذاب شديد وإذا قتلتم أنفسكم كما أمركم الله به زالت مشقة القتل عن قريب وبقيتم في نعيم دائم لا يزول ولا يبيد وكرر ذكر بارئكم تعظيما لما أتوا به مع كونه خالقا لهم وقوله ﴿فتاب عليكم﴾ هاهنا إضمار تقديره ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم أو فقتلتم أنفسكم فتاب عليكم أي قبل توبتكم ﴿إنه هو التواب﴾ أي قابل التوبة عن عباده مرة بعد مرة وقيل معناه قابل التوبة عن الذنوب العظام ﴿الرحيم﴾ يرحمكم إذا تبتم ويدخلكم الجنة وفي هذه الآية دلالة على أنه يجوز أن يشترط في التوبة سوى الندم ما لا يصح التوبة إلا به كما أمروا بالقتل.