الآيات 103-108

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴿103﴾ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴿104﴾ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿105﴾ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿106﴾ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ﴿107﴾ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ﴿108﴾

القراءة:

قرأ نافع وحده حقيق علي بتشديد الياء والباقون بتخفيف الياء.

الحجة:

قال أبو علي حجة نافع في قوله ﴿حقيق علي﴾ واتصاله بعلى من وجهين (أحدهما) أن حق الذي هو فعل يعدى بعلى قال فحق علينا قول ربنا (والآخر) أن حقيق بمعنى واجب فكما أن وجب يتعدى بعلى كذلك يتعدى حقيق به ومن قرأ ﴿حقيق علي﴾ فجاز تعديته بعلى من الوجهين اللذين ذكرنا وقد قالوا هو حقيق بكذا فيجوز على هذا أن يكون علي بمعنى الباء قال أبو الحسن كما وقعت الباء في قوله بكل صراط توعدون موقع على كذلك وقعت على هنا موقع الباء.

اللغة:

البعث الإرسال وهو في الأصل النقل باعتماد يوجب الإسراع في المشي فالبعث بعد الموت نقل إلى حال الحياة والبعث للأنبياء نقل بالإرسال عن حالة إلى حالة النبوة والعصا عود كالقضيب يابس وأصله الامتناع بيبسة يقال عصي بالسيف يعصي إذا امتنع قال جرير:

تصف السيوف وغيركم يعصي بها

يا بن القيون وذاك فعل الصيقل

ويقال عصا بالسيف أي أخذه أخذ العصا ويقال لمن استقر بعد تنقل ألقى عصاه قال:

فألقت عصاها واستقرت بها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر

وليست المعصية بمشتقة من العصا لأن العصا من بنات الواو والمعصية من بنات الياء قال:

فجاءت بنسج العنكبوت كأنه على عصويها سابري مشبرق وأصل ألقى من اللقاء الذي هو الاتصال فألقى عصاه أي أزال اتصالهما عما كان عليه والثعبان الحية الضخمة الطويلة قال الفراء الثعبان أعظم الحيات وهو الذكر وهو مشتق من ثعبت الماء أثعبه إذا فجرته والمثعب مع انفجار الماء فسمي الثعبان لأنه كعنق الماء عند الانفجار والنزع إزالة الشيء عن مكانه الملابس المتمكن فيه كنزع الرداء عن الإنسان والنزع والقلع والجذب نظائر.

الإعراب:

موضع كيف في قوله ﴿كيف كان﴾ نصب لأنه خبر كان وتقديره أنظر أي شيء كان عاقبة المفسدين وموسى على وزن مفعل والميم زائدة لكثرة زيادتها أولا كالهمزة حتى صارت أغلب من زيادة الألف أخيرا وأفعى على وزن أفعل لهذه العلة وموسى لا ينصرف لأنه اسم أعجمي معرفة وموسى الحديد عربي إن سميت به رجلا لم تصرفه لأنه مؤنث ومعرفة على أكثر من ثلاثة أحرف كما لو سميته بعناق لم تصرفه وفرعون على وزن فعلون مثل برذون فالواو زائدة لأنها جاءت مع سلامة الأصول الثلاثة والنون زائدة للزومها وفرعون لا ينصرف لأنه أعجمي معرفة عرب في حال تعريفه لأنه نقل من الاسم العلم ولو عرب في حال تنكره لانصرف كما ينصرف ياقوت في اسم رجل، إلا الحق نصب بأنه مفعول القول على غير الحكاية بل على معنى الترجمة عن المعنى دون حكاية اللفظ ، قوله ﴿إن كنت جئت بآية﴾ قال أبو العباس المبرد إن هنا لم ينقل الماضي إلى معنى الاستقبال من أجل قوة كان لأنها أم الأفعال ولا يجوز ذلك في غيرها وقال أبو بكر السراج المعنى أن تكن جئت ب آية أي أن صح ذلك قال إذا أمكن إجزاء الحرف على أصله لم يجز إخراجه عنه وإن ينقل الفعل نقلين إلى الشرط والاستقبال كما إن لم ينقل الفعل إلى النفي والماضي وضمير المخاطب في كنت يرجع إلى المكنى ولا يجوز ذلك في الذي لأن الذي غائب ببدنه أن يعود إليه ضمير الغائب وقد أجازوه إذا تقدمت كناية المتكلم في نحو قول الشاعر:

وأنا الذي قتلت بكرا بالقنا

وتركت تغلب غير ذات سنام

ونحو ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله:

أنا الذي سمتني أمي حيدرة

أكيلكم بالسيف كيل السندرة

وعلى هذا يجوز أنت الذي ضربك عمرو والوجه ضربه عمرو وقوله ﴿فأت بها﴾ جاز وقوع الأمر في جواب الشرط لأن فيه معنى إن كنت جئت ب آية فإني ألزمك أن تأتي بهذا فقد عاد إلى أنه وجب الثاني بوجوب الأول قوله ﴿فإذا هي ثعبان مبين﴾ إذا هذه ظرف مكان ويسمى ظرف المفاجاة وهي بخلاف إذا التي هي ظرف زمان وفيها معنى الشرط ويعمل فيها جوابها ومثال إذا التي هي ظرف المكان قولهم خرجت فإذا الناس وقوف فإذا في موضع نصب بكونها ظرفا لوقوف وتقديره فبالحضرة الناس وقوف فيجوز أن ينصب وقوفا على الحال لأن إذا ظرف مكان وظروف المكان تكون إخبارا عن الجثث وهذه المسألة وقعت بين سيبويه والكسائي لما اجتمعا عند يحيى بن خالد البرمكي فيما رواه علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أحمد بن يحيى ثعلب ومحمد بن زيد المبرد قالا لما ورد سيبويه بغداد شق أمره على الكسائي فأتى جعفر بن يحيى والفضل بن يحيى فقال أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل قد قدم ليذهب بمحلي فقالا له فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما فجمعا بينهما عند أبيهما وحضر سيبويه وحده وحضر الكسائي ومعه الفراء وعلي الأحمر وغيرهما من أصحابه فسألوه كيف تقول كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها قال أقول فإذا هو هي فأقبل عليه الجمع فقالوا له أخطأت ولحنت فقال يحيى هذا موضع مشكل أنتما إماما مصريكما فمن يحكم بينكما قال فقال الكسائي وأصحابه الأعراب الذين على الباب فأدخل أبو الجراح ومن وجد معه ممن كان الكسائي وأصحابه يحملون عنهم فقالوا إنا نقول فإذا هو إياها وانصرف المجلس على أن سيبويه أخطأ وحكموا عليه بذلك فأعطاه البرامكة وأخذوا له من الرشيد وبعثوا به إلى بلده فما لبث بعد هذا الأمر إلا يسيرا حتى مات ويقال أنه مات كمدا قال علي بن سليمان وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم يقولون إن الجواب على ما قال سيبويه فإذا هو هي وهذا موضع الرفع وهو كما قال علي بن سليمان وذلك أن النصب إنما يكون على الحال نحو خرجت فإذا الناس وقوفا جاز النصب هنا لأن وقوفا نكرة والحال لا يكون إلا نكرة فإذا أضمرت بطل أمر الحال فإن المضمر معرفة والمعرفة لا تكون حالا فوجب العدول عن النصب إلى الرفع كما تقول فإذا الناس وقوف.

المعنى:

ثم عطف سبحانه بقصة موسى (عليه السلام) على ما تقدم من قصص الأنبياء (عليهم السلام) فقال ﴿ثم بعثنا من بعدهم﴾ أي من بعد الرسل الذين ذكرناهم أو من بعد الأمم الذين ذكرنا إهلاكهم ﴿موسى بآياتنا﴾ أي بدلائلنا وحججنا ﴿إلى فرعون وملأه﴾ أي أشراف قومه وذوي الأمر منهم ﴿فظلموا بها﴾ أي ظلموا أنفسهم بجحدها عن الحسن والجبائي وقيل فظلموا بوضعها غير مواضعها فجعلوا بدل الإيمان بها الكفر والجحود لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه الذي هو حقه ولم يقل فذهب موسى (عليه السلام) فأدى إليهم الرسالة فكذبوه لأن في قوله ﴿فظلموا بها﴾ دلالة عليه ﴿فانظر كيف كان عاقبة المفسدين﴾ يعني ما آل إليه أمرهم في الهلاك ﴿وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين﴾ هذه حكاية قول موسى لفرعون وندائه له إني رسول إليك من قبل رب العالمين مبعوث إليك وإلى قومك قال وهب وكان اسم فرعون الوليد بن مصعب وهو فرعون يوسف وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخلها موسى رسولا أربعمائة عام ﴿حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق﴾ قال الزجاج معناه حقيق على ترك القول على الله إلا الحق وقال الإمام العلامة الزمخشري تقول أنا حقيق علي قول الحق أي واجب علي قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا مثلي ناطقا به ومنه قول العرب فلان يدعيه العلم بالطرق فوق ما يدعي هو العلم بها وقال الفراء معناه حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق فيكون على بمعنى الباء كما تقول رميت السهم على القوس وبالقوس وجاءني فلان على حالة حسنة وبحالة حسنة وقيل معناه حريص علي أن لا أقول على الله إلا الحق وما فرضه علي من الرسالة عن أبي عبيدة ﴿قد جئتكم ببينة﴾ أي بحجة ومعجزة ﴿من ربكم﴾ أي أعطانيها ربكم ﴿فأرسل معي بني إسرائيل﴾ أي فأطلق بني إسرائيل من عقال التسخير وخلهم يرجعوا إلى الأرض المقدسة وذلك أن فرعون والقبط كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل واعتقلوهم للاستخدام في الأعمال الشاقة مثل بناء المنازل وحمل الماء ونقل التراب وما أشبه ذلك ﴿قال﴾ فرعون ﴿إن كنت جئت ب آية﴾ أي حجة ودلالة تشهد لك على ما تقوله ﴿فأت بها إن كنت من الصادقين﴾ في أنك رسول الله ﴿فألقى عصاه﴾ الفاء فاء الجواب أي فكان جوابه لفرعون أن ألقى عصاه من يده ﴿فإذا هي ثعبان مبين﴾ أي حية عظيمة بين ظاهر أنه ثعبان بحيث لا يشتبه على الناس ولم يكن مما يخيل أنه حية وليس بحية وقيل إن العصا لما صارت حية أخذت قبة فرعون بين فكيها وكان ما بينهما ثمانون ذراعا فتضرع فرعون إلى موسى بعد أن وثب من سريره وهرب منها وأحدث وهرب الناس ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى خذها وأنا أومن بك فأخذها موسى فعادت عصا عن ابن عباس والسدي وقيل وكان طولها ثمانين ذراعا ﴿ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين﴾ هناك قيل إن فرعون قال له هل معك آية أخرى قال نعم فأدخل يده في جيبه وقيل تحت إبطه ثم نزعها أي أخرجها منه وأظهرها فإذا هي بيضاء أي لونها أبيض نوري ولها شعاع يغلب نور الشمس وكان موسى (عليه السلام) آدم فيما يروي ثم أعاد اليد إلى كمه فعادت إلى لونها الأول عن ابن عباس والسدي ومجاهد سؤال.

قيل كيف قال سبحانه هنا ﴿فإذا هي ثعبان﴾ وقال في موضع آخر فلما رآها تهتز كأنها جان والثعبان الحية العظيمة والجان الحية الصغيرة فاختلف الوصفان والقصة واحدة والجواب أن الآيتين ليستا إخبارا عن قصة واحدة بل الحالتان مختلفتان والحالة التي كانت العصا بصفة الجان كانت في ابتداء النبوة والحالة التي كانت بصفة الثعبان كانت عند لقائه فرعون وعلى هذا فلا سؤال وقد أجيب أيضا عن ذلك بأنه شبهها بالجان لسرعة حركتها ونشاطها وخفتها مع أنها في جسم الثعبان وكبر خلقه وهذا أبهر في باب الإعجاز.

حديث العصا:

قد ذكرنا نسب موسى (عليه السلام) في سورة البقرة وأما عصاه فقيل أنه أعطاه إياها ملك حين توجه إلى مدين وقيل إن عصا آدم من آس الجنة حين أهبط وكانت تدور بين أولاده حتى انتهت النوبة إلى شعيب فكانت ميراثا له مع أربعين عصا كانت لآبائه فلما استأجر شعيب موسى أمره بدخول بيت فيه العصي وقال له خذ عصا من تلك العصي فوقعت تلك العصا بيد موسى فاستردها شعيب وقال خذ غيرها حتى فعل ذلك ثلاث مرات في كل مرة تقع يده عليها دون غيرها فتركها في يده في المرة الرابعة فلما خرج من عنده متوجها إلى مصر ورأى نارا وأتى الشجرة فناداه الله تعالى أن يا موسى إني أنا الله وأمره بإلقائها فألقاها فصارت حية فولى هاربا فناداه الله سبحانه خذها ولا تخف فأدخل يده بين لحييها فعادت عصا فلما أتى فرعون ألقاها بين يديه على ما تقدم بيانه وقيل كان الأنبياء (عليهم السلام) يأخذون العصا تجنبا من الخيلاء وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) تعصوا فإنها من سنن إخواني المرسلين وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من خرج في سفر ومعه عصا من لوز مر وتلا هذه الآية ولما توجه تلقاء مدين إلى قوله والله على ما نقول وكيل آمنه الله من كل سبع ضار ومن كل لص عاد ومن كل ذات حمة حتى يرجع إلى أهله ومنزله وكان معه سبعة وسبعون من المعقبات يستغفرون له حتى يرجع ويضعها وقيل إن أول من أخذ العصا عند الخطبة في العرب قس بن ساعدة.