الآيـة 30

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿30﴾

اللغة:

القول موضوع في كلام العرب للحكاية نحو قولك قال زيد خرج عمرو والرب السيد يقال رب الدار ورب الفرس ولا يقال الرب بالألف واللام إلا لله تعالى وأصله من ربيته إذا قمت بأمره ومنه قيل للعالم رباني لأنه يقوم بأمر الأمة والملائكة جمع ملك واختلف في اشتقاقه فذهب أكثر العلماء إلى أنه من الألوكة وهي الرسالة وقال الخليل الألوك الرسالة وهي المالكة والمالكة على مفعلة وقال غيره إنما سميت الرسالة الوكا لأنها تولك في الفم أي تمضغ والفرس تألك اللجام وتعلك قال عدي بن زيد:

أبلغا النعمان عني مالكا

أنه قد طال حسبي وانتظاري

ويروى ملاءكا وقال لبيد:

وغلام أرسلته أمه

بالوك فبذلنا ما سأل

وقال الهذلي:

ألكني إليها وخير الرسول

أعلمهم بنواحي الخبر

فالملائكة على هذا وزنها معافلة لأنها مفاعلة مقلوبة جمع ملأك في معنى مالك قال الشاعر:

فلست لإنسي ولكن لملأك

تنزل من جو السماء يصوب

فوزن ملأك معفل مقلوب

مالك مفعل ومن العرب من يستعمله مهموزا والجمهور منهم على إلقاء حركة الهمزة على اللام وحذفها فيقال ملك وذهب أبو عبيدة إلى أن أصله من لاك إذا أرسل فملأك على هذا القول مفعل وملائكة مفاعلة غير مقلوبة والميم في هذين الوجهين زائدة وذهب ابن كيسان إلى أنه من الملك وأن وزن ملأك فعال مثل شمال وملائكة فعائلة فالميم على هذا القول أصلية والهمزة زائدة والملك وإن كان أصله الرسالة فقد صار صفة غالبة على صنف من رسل الله غير البشر كما أن السماء وإن كان أصله الارتفاع فقد صار غالبا على السماوات المعروفة وقال أصحابنا رضي الله عنهم أن جميع الملائكة ليسوا برسل الله بدلالة قوله تعالى ﴿يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس﴾ فلو كانوا كلهم رسلا لكان جميعهم مصطفين فعلى هذا يكون الملك اسم جنس ولا يكون من الرسالة والجعل والخلق والفعل والإحداث نظائر إلا أن الجعل قد يتعلق بالشيء لا على سبيل الإيجاد بخلاف الفعل والإحداث تقول جعلته متحركا وحقيقة الجعل تغيير الشيء عما كان عليه وحقيقة الفعل والإحداث الإيجاد والخليفة والإمام واحد في الاستعمال إلا أن بينهما فرقا فالخليفة استخلف في الأمر مكان من كان قبله فهو مأخوذ من أنه خلف غيره وقام مقامه والإمام مأخوذ من التقدم فهو المتقدم فيما يقتضي وجوب الاقتداء به وفرض طاعته فيما تقدم فيه والسفك صب الدم والدم قد اختلف في وزنه فقال بعضهم دمي على وزن فعل قال الشاعر:

فلو أنا على حجر ذبحنا

جرى الدميان بالخبر اليقين

وقيل أصله دمي على وزن فعل والشاعر لما رد الياء في التثنية لقلة الاسم حركه ليعلم أنه متحركا قبل ذلك والتسبيح التنزيه لله تعالى عن السوء وعما لا يليق به والسبوح المستحق للتنزيه والتعظيم والقدوس المستحق للتطهير والتقديس التطهير ونقيضه التنجيس والقدس السطل الذي يتطهر منه وقد حكى سيبويه أن منهم من يقول سبوح قدوس بالفتح والضم أكثر في الكلام والفتح أقيس لأنه ليس في الكلام فعول إلا ذروح وسبحان اسم المصدر قال سيبويه سبحان الله معناه براءة الله من كل سوء وتنزيه الله قال الأعشى:

أقول لما جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

أي براءة منه قال وهو معرفة علم خاص لا ينصرف للتعريف والزيادة وقد اضطر الشاعر فنونه قال أمية:

سبحانه ثم سبحانا يعود له

وقبله سبح الجودي والجمد

وهو مشتق من السبح الذي هو الذهاب ولا يجوز أن يسبح غير الله وإن كان منزها لأنه صار علما في الدين على أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه كما أن العبادة هي غاية في الشكر لا يستحقها سواه.

الإعراب:

قال أبو عبيدة إذ هاهنا زائدة وأنكر الزجاج وغيره عليه هذا القول وقالوا أن الحرف إذا أفاد معنى صحيحا لم يجز إلغاؤه قال الزجاج ومعناه الوقت ولما ذكر الله تعالى خلق الناس وغيرهم فكأنه قال ابتداء خلقكم ﴿إذ قال ربك للملائكة﴾ وقال علي بن عيسى تقديره اذكر إذ قال ربك للملائكة فموضع إذ نصب على إضمار فعل والواو عاطفة جملة على جملة و﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ جملة في موضع نصب بقال وقوله ﴿أتجعل فيها﴾ إلى قوله ﴿ونقدس لك﴾ في موضع نصب بقالوا والواو في قوله ﴿ونحن﴾ واو الحال وتسمى واو القطع وواو الاستئناف وواو الابتداء وواو إذ كذا كان يمثلها سيبويه ومثله الواو في قوله ﴿يغشي طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم﴾ أي إذ طائفة وكذا هاهنا إذ نحن نسبح والعامل في الحال هاهنا أ تجعل كأنه قال أ تجعل فيها من يفسد فيها وهذه حالنا والباء في بحمدك تتعلق بنسبح واللام من لك تتعلق بنقدس وما موصولة وصلته لا تعلمون والعائد ضمير المفعول حذف لطول الكلام أي لا تعلمونه وهو في موضع النصب بأعلم.

المعنى:

اذكر يا محمد ﴿إذ قال ربك للملائكة﴾ قيل أنه خطاب لجميع الملائكة وقيل خطاب لمن أسكنه الأرض بعد الجان من الملائكة عن ابن عباس ﴿إني جاعل﴾ أي خالق ﴿في الأرض خليفة﴾ أراد بالخليفة آدم (عليه السلام) فهو خليفة الله في أرضه يحكم بالحق إلا أنه تعالى كان أعلم ملائكته أنه يكون من ذريته من يفسد فيها عن ابن عباس وابن مسعود وقيل إنما سمى الله تعالى آدم خليفة لأنه جعل آدم وذريته خلفاء للملائكة لأن الملائكة كانوا من سكان الأرض وقيل كان في الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء فأهلكوا فجعل آدم وذريته بدلهم عن ابن عباس وقيل عنى بالخليفة ولد آدم يخلف بعضهم بعضا وهم خلفوا أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض عن الحسن البصري وقيل أراد بالأرض مكة لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال دحيت الأرض من مكة ولذلك سميت أم القرى وروي أن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام والظاهر أنها الأرض

المعروفة وهو الصحيح وقوله ﴿قالوا﴾ يعني الملائكة لله تعالى أ تجعل فيها أي في الأرض من يفسد فيها بالكفر والمعاصي ويسفك الدماء بغير حق وذكر فيه وجوه (أحدها) أن خلقا يقال لهم الجان كانوا في الأرض فأفسدوا فيها فبعث الله ملائكة أجلتهم من الأرض وكان هؤلاء الملائكة سكان الأرض من بعدهم فقالوا يا ربنا ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها﴾ كما فعل بنو الجان قاسوا بالشاهد على الغائب وهو قول كثير من المفسرين (وثانيها) أن الملائكة إنما قالت ذلك على سبيل الاستفهام وعلى وجه الاستخبار والاستعلام عن وجه المصلحة والحكمة لا على وجه الإنكار ولا على سبيل إخبار فكأنهم قالوا يا الله إن كان هذا كما ظننا فعرفنا ما وجه الحكمة فيه (وثالثها) أن الله تعالى أخبر الملائكة بأنه سيكون من ذرية هذا الخليفة من يعصي ويسفك الدماء على ما روي عن ابن عباس وابن مسعود والغرض في إعلامه إياهم أن يزيدهم يقينا على وجه علمه بالغيب لأنه وجد بعد ذلك على ما أخبرهم به وقيل ليعلم آدم أنه خلق للأرض لا للجنة فقالت الملائكة أ تجعل فيها من يفعل كذا وكذا على وجه التعرف لما في هذا من التدبير والاستفادة لوجه الحكمة فيه وهذا الوجه يقتضي أن يكون في أول الكلام حذف ويكون التقدير إني جاعل في الأرض خليفة وإني عالم بأنه سيكون في ذريته من يفسد فيها ويسفك الدماء فحذف اختصارا وكذلك قوله ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك﴾ في ضمنه اختصار شديد أي فنحن على ما نظنه ويظهر لنا من الأمر أولى بالخلافة في الأرض لأنا نطيع وغيرنا يعصي وفي قوله ﴿إني أعلم ما لا تعلمون﴾ اختصار أيضا لأنه يتضمن أني أعلم من مصالح المكلفين ما لا تعلمونه وما يكون مخالفا لما تظنونه على ظواهر الأمور ومثل هذه الحذوف العجيبة والاختصارات البديعة كثيرة في القرآن والحذف معدود في أنواع الفصاحة إذا كان فيما أبقي دليل على ما ألقي ومما جاء منه في الشعر قول الشنفري:

ولا تقبروني إن قبري محرم

عليكم ولكن خامري أم عامر

أي لا تدفنوني بل دعوني تأكلني التي يقال لها خامري أم عامر يعني الضبع وقول أبي داود:

إن من شيمتي لبذل تلادي

دون عرضي فإن رضيت فكوني

أي فكوني على ما أنت عليه وإن سخطت فبيني فحذف وقال عنترة:

هل تبلغني دارها شدنية

لعنت بمحروم الشراب مصرم

أي دعي عليها بانقطاع لبنها وجفاف ضرعها فصارت كذلك والناقة إذا كانت لا تنتج كانت أقوى على السير وإنما أرادت الملائكة بقولهم ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها﴾ ولد آدم الذين ليسوا بأنبياء ولا معصومين لا آدم نفسه ومن يجري مجراه من الأنبياء والمعصومين ومعنى قولهم ﴿ونحن نسبح بحمدك﴾ نتكلم بالحمد لك والنطق بالحمد لله تسبيح له كقوله تعالى ﴿والملائكة يسبحون بحمد ربهم﴾ وإنما يكون حمد الحامد سبحانه تسبيحا لأن معنى الحمد لله الثناء عليه والشكر له وهذا تنزيه له واعتراف بأنه أهل لأن ينزه ويعظم ويثني عليه عن مجاهد وقيل معنى ﴿نسبح بحمدك﴾ نصلي لك كقوله ﴿فلولا أنه كان من المسبحين﴾ أي من المصلين عن ابن عباس وابن مسعود وقيل هو رفع الصوت بذكر الله عن المفضل ومنه قول جرير:

قبح الإله وجوه تغلب كلما

سبح الحجيج وكبروا إهلالا

وقوله ﴿ونقدس لك﴾ أي ننزهك عما لا يليق بك من صفات النقص ولا نضيف إليك القبائح فاللام على هذا زائدة نقدسك وقيل نقدس لك أي نصلي لأجلك وقيل نطهر أنفسنا من الخطايا والمعاصي قوله ﴿إني أعلم ما لا تعلمون﴾ قيل أراد ما أضمره إبليس من الكبر والعجب والمعصية لما أمره الله سبحانه بالسجود لآدم عن ابن عباس وابن مسعود وقيل أراد أعلم من في ذرية آدم من الأنبياء والصالحين عن قتادة وقيل أراد به ما اختص الله تعالى بعلمه من تدبير المصالح وروي عن أبي عبد الله قال إن الملائكة سألت الله تعالى أن يجعل الخليفة منهم وقالوا نحن نقدسك ونطيعك ولا نعصيك كغيرنا قال فلما أجيبوا بما ذكر في القرآن علموا أنهم تجاوزوا ما لهم فلاذوا بالعرش استغفارا فأمر الله تعالى آدم بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقربون فقال الله تعالى للملائكة إني أعرف بالمصلحة منكم وهو معنى قوله ﴿أعلم ما لا تعلمون﴾ وهذا يدل على أنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه لو كان يحسن منه كل شيء لم يكن لهذا الكلام معنى لأنه إنما يفيد في الجواب متى حمل على أنه أراد إني أعلم بالمصالح فأفعل ما هو الأصلح.

النظم:

واتصال هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى ذكر أول النعم له علينا وهي نعمة الحياة ثم ذكر بعده إنعامه علينا بخلق الأرض وما فيها وبخلق السماء ثم أراد أن يذكر نعمته علينا بخلق أبينا آدم (عليه السلام) وما أعطاه من الفضيلة فكأنه قال اذكر لهم كيف تكفرون بالله وقد فعل بكم كذا وكذا وأنعم عليكم بكذا أو كذا.