الآيات 1 - 5

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَِرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِق إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّـثَـتِ فِى الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِد إِذَا حَسَدَ (5)﴾

التّفسير:

بربّ الفلق أعوذ:

يخاطب اللّه سبحانه نبيّه باعتباره الاُسوة والقدوة، ويقول له: (قل أعوذ بربّ الفلق، من شرّ ما خلق) "الفلق": من فَلَقَ أي شقَّ وفَصَل; وسُمي طلوع الصبح بالفلق لأنّ ضوء الصبح يشق ظلمة الليل; ومثله الفجر، اطلق على طلوع الصبح لنفس المناسبة.

وقيل: إنّ الفلق يعني ولادة كلّ الموجودات الحيّة، بشرية كانت أم حيوانية أم نباتية.

فولادة هذه الموجودات تقترن بفلق حبّتها أو بيضتها.

والولادة من أعجب مراحل وجود هذه الأحياء، لأنّها تشكل طفرة في مراحل وجودها، وانتقالاً من عالم إلى عالم آخر.

يقول سبحانه: (إنّ اللّه فالق الحبّ والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) (1).

وقيل: إنّ الفلق له معنى واسع يشمل كلّ خلق، لأنّ الخلق، هو شقّ ستار العدم ليسطع نور الوجود.

وكلّ واحد من هذه المعاني الثلاثة (طلوع الصبح - وولادة الموجودات الحيّة - وخلق كلّ موجود) ظاهرة عجيبة تدل على عظمة الباري والخالق والمدبّر، ووصف اللّه بذلك له مفهوم عميق.

في بعض الرّوايات جاء أنّ الفلق بئر عظيم في جهنّم تبدو وكأنّها شقّ في داخلها.

وقد تكون الرّواية إشارة إلى أحد مصاديقها لا أن تحدّ المفهوم الواسع لكلمة "الفلق". (من شرّ ما خلق)... من كلّ موجود شرّير من الإنس والجن والحيوان وحوادث الشرّ والنفس الأمارة بالسوء، وهذا لا يعني أنّ الخلق الإلهي ينطوي في ذاته على شرّ، لأنّ الخلق هو الإيجاد، والإيجاد خير محض.

يقول سبحانه: (الذي أحسن كلّ شيء خلقه) (2).

بل الشرّ يعرض المخلوقات حين تنحرف عن قوانين الخلقة، وتنسلخ عن المسير المعين لها.

على سبيل المثال، أنياب الحيوانات وسيلة دفاعية تستخدمها أمام الأعداء، كما نستخدم نحن السلاح للدفاع مقابل العدو.

لو أنّ هذا السلاح استخدم في محله فهو خير، وإن لم يستعمل في محله كأن صوب تجاه صديق فهو شرّ.

جدير بالذكر أنّ كثيراً من الأُمور نحسبها شرّاً وفي باطنها خير كثير، مثل الحوادث والبلايا التي تنفض عن الإنسان غبار الغفلة وتدفعه إلى التوجه نحو اللّه هذه ليس من الشرّ حتماً. (ومن شرّ غاسق إذا وقب).

"غاسق": من الغسق، وهو - كما يقول الراغب في المفردات - شدّة ظلمة الليل في منتصفه.

ولذلك يقول القرآن الكريم في إشارته إلى نهاية وقت صلاة المغرب: (... إلى غسق الليل...) وما قاله بعضهم في الغسق أنّه ظلمة أوّل الليل فبعيد خاصّة وأن أصل الكلمة يعني الإمتلاء والسيلان.

وظلمة الليل تكون ممتلئة حين ينتصف الليل.

وأحد المفاهيم الملازمة لهذا المعنى الهجوم، ولذلك استعملت الكلمة في هذا المعنى أيضاً.

"غاسق": تعني إذن في الآية: الفرد المهاجم، أو الموجود الشرّير الذي يتستر بظلام الليل لشنّ هجومه.

فليست الحيوانات الوحشية والزواحف اللاسعة وحدها تنشط في الليل وتؤذي الآخرين بل الأفراد الشرّيرين يتخذون من الليل أيضاً ستاراً لتنفيذ أهدافهم الخبيثة.

"وقب": من الوَقب، وهو الحفرة، ثمّ استعمل الفعل "وَقَبَ" للدخول في الحفرة; وكأن هذه الموجودات الشريرة المضرة تستغل ظلام الليل، فتصنع الحفر الضارة لتحقق مقاصدها الخبيثة.

وقد يكون الفعل يعني: نَفَذَ وتوغّل. (من شرّ النفاثات في العقد).

"النفاثات": من "النفث" وهو البصق القليل; ولما كان البصق مقروناً بالنفخ، فاستعملت نفث بمعنى نفخ أيضاً.

كثير من المفسّرين قالوا إنّ "النفاثات" هي النساء الساحرات.

وهي صيغة جمع للمؤنث ومبالغة من نَفثَ.

وهذه النسوة كن يقرأن الأوراد وينفخن في عقد، وبذلك يعملن السحر.

وقيل: إنّها إشارة للنساء اللاتي كن يوسوسن في أذن الرجال وخاصّة الأزواج ليثنوهم عن عزمهم وليوهنوا إرادتهم في أداء المهام الكبرى.

وما أكثر الحوادث المؤلمة التي أدت إليها وساوس أمثال هذه النسوة طوال التاريخ! وما أكثر نيران الفتنة التي أشعلتها، والعزائم التي أرختها وأوهنتها! الفخر الرازي يقول النساء يتصرفن في قلوب الرجال لنفوذ محبّتهن في قلوبهم (3).

وهذا المعنى في عصرنا أظهر من أي وقت آخر، إذ إنّ إحدى أهم وسائل نفوذ الجواسيس في أجهزة السياسة العالمية استخدام النساء، اللائي ينفثن في العقد، فتنفتح مغاليق الأسرار في القلوب ويحصلن على أدقّ الأسرار.

وقيل: إنّ النفاثات هي النفوس الشريرة، أو الجماعات المشككة التي تبعث بوساوسها عن طريق وسائل إعلامها لتوهن عزيمة الجماعات والشعوب.

ولا يستبعد أن تكون الآية ذات مفهوم عام جامع يشمل كلّ اُولئك ويشمل أيضاً النمامين والذين يهدمون بنيان المحبّة بين الأفراد.

وينبغي التأكيد على أنّ السّورة لا تتضمّن أية دلالة على أن المقصود بآياتها سحر الساحرين.

وعلى فرض أنّها تشير إلى سحر الساحرين، فإنّها لا تشكل دليلاً على صحة سبب النزول الذي ذكره المفسّرون للسورة، بل تدل على أنّ النّبي (ص) استعاذ باللّه من شرّ الساحرين.

تماماً مثل الفرد السالم الذي يستعيذ باللّه من السرطان وهو لم يُصب به أصلاً. (ومن شرّ حاسد إذا حسد).

هذه الآية تبيّن أنّ الحسد أسوأ الصفات الرذيلة وأحطها، لأنّ القرآن وضعه في مستوى أعمال الحيوانات المتوحشة والثعابين اللاسعة والشياطين الماكرة.


1- الأنعام، الآية 95.

2- ألم السجدة، الآية 7.

3- تفسير الفخر الرازي، ج32، ص196.