الآيات 6-9

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴿6﴾ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ﴿7﴾ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿8﴾ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ ﴿9﴾

اللغة:

السؤال طلب الجواب بأدائه في الكلام كما أن الاستخبار طلب الخبر بأدائه في الكلام والقصص ما يتلو بعضه بعضا ومنه المقص لأن قطعه يتلو بعضه بعضا ومنه القصة من الشعر والقصة من الكتاب ومنه القصاص لأنه يتلو الجناية في الاستحقاق ومنه المقاصة في الحق لأنه يسقط ماله قصاصا بما عليه والوزن في اللغة هو مقابلة أحد الشيئين بالآخر حتى يظهر مقداره وقد استعمل في غير ذلك تشبيها به فمنها وزن الشعر بالعروض ومنها قولهم فلان يزن كلامه وزنا قال الأخطل:

وإذا وضعت أباك في ميزانهم

رجحوا وشال أبوك في الميزان والحق وضع الشيء موضعه على وجه تقتضيه الحكمة وقد استعمل مصدرا على هذا المعنى وصفة كما جرى ذلك في العدل قال الله سبحانه ذلك بأن الله هو الحق فجرى على طريق الوصف والثقل عبارة عن الاعتماد اللازم سفلا ونقيضه الخفة وهي الاعتماد اللازم علوا.

الإعراب:

الفاء في قوله ﴿فلنسألن﴾ عاطفة جملة على جملة وإنما دخلت الفاء وهي موجبة للتعقيب مع تراخي ما بين الأول والثاني وذلك يليق بثم لتقريب ما بينهما كما قال سبحانه اقتربت الساعة وقال وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب وقال أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وإذا طرف المفاجاة وبينهما بعد يومئذ يجوز فيه الإعراب والبناء لأن إضافته إلى مبني إضافة غير محضة تقربه من الأسماء المركبة وإضافته إلى الجملة تقربه من الإضافة الحقيقية ونون إذ لأنه قد قطع عن الإضافة إذ من شأن التنوين أن يعاقب الإضافة.

المعنى:

ولما أنذرهم سبحانه بالعذاب في الدنيا عقبه بالإنذار بعذاب الآخرة فقال ﴿فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين﴾ أقسم الله سبحانه أنه يسأل المكلفين الذين أرسل إليهم رسله وأقسم أيضا أنه يسأل المرسلين الذين بعثهم فيسأل هؤلاء عن الإبلاغ ويسأل أولئك عن الامتثال وهو تعالى وإن كان عالما بما كان منهم فإنما أخرج الكلام مخرج التهديد والزجر ليتأهب العباد بحسن الاستعداد لذلك السؤال وقيل أنه يسأل الأمم عن الإجابة ويسأل الرسل ما ذا عملت أممهم فيما جاءوا به وقيل إن الأمم يسألون سؤال توبيخ والأنبياء يسألون سؤال شهادة على الحق عن الحسن وأما فائدة السؤال فأشياء منها أن يعلم الخلائق أنه سبحانه أرسل الرسل وأزاح العلة وأنه لا يظلم أحدا ومنها أن يعلموا أن الكفار استحقوا العذاب بأفعالهم ومنها أن يزداد سرور أهل الإيمان بالثناء الجميل عليهم ويزداد غم الكفار بما يظهر من أفعالهم القبيحة ومنها أن ذلك لطف للمكلفين إذا أخبروا به ومما يسأل على هذا أن يقال كيف يجمع بين قوله تعالى ﴿و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان وقوله ﴿فلنسألن الذين أرسل إليهم﴾ فو ربك لنسألنهم أجمعين والجواب عنه من وجوه (أحدها) أنه سبحانه نفي أن يسألهم سؤال استرشاد واستعلام وإنما يسألهم سؤال تبكيت وتقريع ولذلك قال عقيبه يعرف المجرمون بسيماهم وسؤال الاستعلام مثل قولك أين زيد ومن عندك وهذا لا يجوز على الله سبحانه وسؤال التوبيخ والتقريع كمن يقول أ لم أحسن إليك فكفرت نعمتي ومنه قوله أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أ لم تكن آياتي تتلى عليكم وكقول الشاعر:

أطربا وأنت قنسري

أي كبير السن وهذا توبيخ منه لنفسه أي كيف أطرب مع الكبر والشيب وقد يكون السؤال للتقرير كقول الشاعر:

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح أي أنتم كذلك وفي ضده قوله:

وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر أي لا يصلح وأما سؤال المرسلين فليس بتقريع ولا توبيخ لهم ولكنه توبيخ للكفار وتقريع لهم (وثانيها) أنهم إنما يسألون يوم القيامة كما قال وقفوهم إنهم مسئولون ثم تنقطع مسألتهم عند حصولهم في العقوبة وعند دخولهم النار فلا تنافي بين الخبرين بل هو إثبات للسؤال في وقت ونفي له في وقت آخر (وثالثها) أن في القيامة مواقف ففي بعضها يسأل وفي بعضها لا يسأل فلا تضاد بين الآيات وأما الجمع بين قوله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون وقوله ﴿وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون﴾ فهو أن الأول معناه لا يسأل بعضهم بعضا سؤال استخبار عن الحال التي جهلها بعضهم لتشاغلهم عن ذلك ولكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه والثاني معناه يسأل بعضهم بعضا سؤال تلاوم وتوبيخ كما قال في موضع آخر يتلاومون وكقوله ﴿أنحن صددناكم عن الهدى﴾ الآية ومثل ذلك كثير في القرآن ثم بين سبحانه ما ذكرناه من أنه لا يسألهم سؤال استعلام بقوله ﴿فلنقصن عليهم﴾ أي لنخبرنهم بجميع أفعالهم ليعلموا أن أعمالهم كانت محفوظة وليعلم كل منهم جزاء عمله وأنه لا ظلم عليه وليظهر لأهل الموقف أحوالهم ﴿بعلم﴾ قيل معناه نقص عليهم أعمالهم بأنا عالمون بها وقيل معناه بمعلوم كما قال ولا يحيطون بشيء من علمه أي من معلومه وقال ابن عباس معنى قوله ﴿فلنقصن عليهم بعلم﴾ ينطق عليهم كتاب أعمالهم كقوله تعالى ﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق﴾ ﴿وما كنا غائبين﴾ عن علم ذلك وقيل عن الرسل فيما بلغوا وعن الأمم فيما أجابوا وذكر ذلك مؤكدا لعلمه بأحوالهم والمعنى أنه لا يخفى عليه شيء ﴿والوزن يومئذ الحق﴾ ذكر فيه أقوال (أحدها) أن الوزن عبارة عن العدل في الآخرة وأن لا ظلم فيها على أحد عن مجاهد والضحاك وهو قول البلخي (وثانيها) أن الله ينصب ميزانا له لسان وكفتان يوم القيامة فتوزن به أعمال العباد الحسنات والسيئات عن ابن عباس والحسن وبه قال الجبائي ثم اختلفوا في كيفية الوزن لأن الأعمال أعراض لا يجوز عليها الإعادة ولا يكون لها وزن ولا تقوم بأنفسها فقيل توزن صحائف الأعمال عن عبد الله بن عمر وجماعة وقيل يظهر علامات للحسنات وعلامات للسيئات في الكفتين فيراها الناس عن الجبائي وقيل يظهر للحسنات صورة حسنة وللسيئات صورة سيئة عن ابن عباس وقيل توزن نفس المؤمن والكافر عن عبيد بن عمير قال يؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة (وثالثها) أن المراد بالوزن ظهور مقدار المؤمن في العظم ومقدار الكافر في الذلة كما قال سبحانه فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا فمن أتى بالعمل الصالح الذي يثقل وزنه أي يعظم قدره فقد أفلح ومن أتى بالعمل السيء الذي لا وزن له ولا قيمة فقد خسر عن أبي مسلم وأحسن الأقوال القول الأول وبعده الثاني وإنما قلنا ذلك لأنه اشتهر من العرب قولهم كلام فلان موزون وأفعاله موزونة يريدون بذلك أنها واقعة بحسب الحاجة لا تكون ناقصة عنها ولا زائدة عليها زيادة مضرة أو داخلة في باب العبث قال مالك ابن أسماء الفزاري:

وحديث ألذه هو مما

ينعت الناعتون يوزن وزنا

منطق صائب ويلحن أحيانا

وخير الحديث ما كان لحنا أي يعرض في الكلام ولا يصرح به وقيل أنه من اللحن الذي هو سرعة الفهم والفطنة وعلى هذا فيكون معنى الوزن أنه قام في النفس مساويا لغيره كما يقوم الوزن في مرآة العين كذلك وأما حسن القول الثاني فلمراعاة الخبر الوارد فيه والجري على ظاهره ﴿فمن ثقلت موازينه﴾ إنما جمع الموازين لأنه يجوز أن يكون لكل نوع من أنواع الطاعات يوم القيامة ميزان ويجوز أن يكون كل ميزان صنفا من أصناف أعماله ويؤيد هذا ما جاء في الخبر أن الصلاة ميزان فمن وفى استوفى ﴿فأولئك هم المفلحون﴾ أي الفائزون بثواب الله ﴿ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم﴾ بأن استحقوا عذاب الأبد ﴿بما كانوا ب آياتنا يظلمون﴾ أي بجحودهم بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من آياتنا وحججنا والخسران ذهاب رأس المال ومن أعظم رأس المال النفس فإذا أهلك نفسه بسوء عمله فقد خسر نفسه.