الآيـة 188

لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿188﴾

القراءة:

قد ذكرنا اختلاف القراءة في ﴿تحسبن﴾ و﴿تحسبنهم﴾ فيما قبل.

الحجة:

قال أبو علي من قرأ لا يحسبن بالياء فلا يحسبنهم فالذين في موضع رفع بأنه فاعل يحسبن ولم يوقع يحسبن على شيء قال أبو الحسن لا يعجبني قراءة من قرأ الأولى بالياء لأنه لم يوقعه على شيء ويرى أنه لم يستحسن أن لا يعدي حسب لأنه قد جرى مجرى اليمين في نحو علم الله لأفعلن ولقد علمت لتأتين منيتي وظنوا ما لهم من محيص فكما أن القسم لا يتكلم به حتى يعلق بالمقسم عليه فكذلك ظننت وعلمت في هذا الباب وأيضا فقد جرى في كلامهم لغوا وما جرى لغوا لا يكون في حكم الجمل المفيدة ومن ثم جاء نحوه:

وما خلت أبقي بيننا من مودة

عراض المذاكي المسنقات القلايصا وإنما هو وما أبقي بيننا فالوجه في هذه القراءة أنه لم يعد حسبت إلى مفعوليه اللذين يقتضيهما لأن حسبت في قوله ﴿فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب﴾ لما جعل بدلا من الأول وعدي إلى مفعوليه استغني بهما عن تعدية الأول إليهما كما استغني في قوله:

بأي كتاب أو ب آية سنة

ترى حبهم عارا علي وتحسب

بتعدية أحد الفعلين إلى المفعولين عن تعدية الآخر إليهما والفاء زائدة فالتقدير لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا بمفازة من العذاب وأما قراءة فلا تحسبنهم بضم الباء فإن فعل الفاعل الذي هو يحسبن تعدى إلى ضميره وحذفت واو الضمير لدخول النون الثقيلة فإن قيل هلا لم تحذف الواو من تحسبون وأثبتها كما ثبتت في تمود بالثوب أ تحاجوني ونحو ذلك مما يثبت فيه التقاء الساكنين لما في الساكن الأول من زيادة المد التي تقوم مقام الحركة فالقول فيه أنه حذفت كما حذفت مع الخفيفة أ لا ترى أنك لو قلت لا تحسبن زيدا ذاهب لم يلزمك الحذف فأجرى الثقيلة مجرى الخفيفة في هذا وقوله ﴿بمفازة من العذاب﴾ في موضع المفعول الثاني وفيه ذكر للمفعول الأول وفعل الفاعل في هذا الباب يتعدى إلى ضمير نفسه نحو ظننتني أخاك لأن هذه الأفعال لما كانت تدخل على المبتدأ والخبر أشبهت أن وأخواتها في دخولها على المبتدأ والخبر كدخول هذه الأفعال عليهما وذلك قولك ظننتني ذاهبا كما تقول إني ذاهب ومما يدل على ذلك قبح دخول النفس عليها لو قلت أظن نفسي تفعل كذا لم يحسن كما يحسن أظنني فاعلا فأما قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر لا يحسبن بالياء ﴿فلا تحسبنهم﴾ بالتاء وفتح الياء فمثل قراءة ابن كثير وأبي عمرو إلا في قوله ﴿فلا تحسبنهم﴾ والمفعولان اللذان يقتضيهما الحسبان في قوله لا يحسبن الذين يفرحون محذوفا لدلالة ما ذكر من بعد عليهما ولا يجوز البدل هنا كما جاز هناك لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما وأما قراءة حمزة بالتاء فيهما فحذف المفعول الثاني الذي يقتضيه تحسبن لأن ما يجيء من بعد قوله ﴿فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب﴾ يدل عليه ويجوز أن يجعل تحسبنهم بدلا من تحسبن والفاء زائدة كما في قوله (فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي).

النزول:

نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون بإجلال الناس لهم ونسبتهم إياهم إلى العلم عن ابن عباس وقيل نزلت في أهل النفاق لأنهم كانوا يجمعون على التخلف عن الجهاد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإذا رجعوا اعتذروا وأحبوا أن يقبل منهم العذر ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان عن أبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت وقيل أتت يهود خيبر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا نحن نعرفك ونؤمن بك وليس ذلك في قلوبهم فحمدهم المسلمون فنزلت فيهم الآية عن قتادة.

المعنى:

ثم بين سبحانه خصلة أخرى ذميمة من خصال اليهود فقال ﴿لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا﴾ أي الفارحون الذين يفرحون بالنفاق ﴿ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا﴾ أي بالإيمان وقيل هم اليهود الذين فرحوا بكتمان أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأحبوا أن يحمدوا بأنهم أئمة وليسوا كذلك وقد عرفت المعنى في القراءة بالتاء والياء في الحجة فلا معنى لإعادته وقال أبو القاسم البلخي أن اليهود قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وأهل الصلاة والصوم وليسوا أولياء الله ولا أحباءه ولا أهل الصلاة والصوم ولكنهم أهل الشرك والنفاق وهو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وقيل معناه أنهم يحبون أن يحمدوا على إبطالهم أمر محمد وتكذيبهم به والأقوى أن يكون المعني بالآية من أخبر الله عنهم أنه أخذ ميثاقهم في أن يبينوا أمر محمد ولا يكتموه وعليه أكثر أهل التأويل وقوله ﴿فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب﴾ أي لا تظننهم بمنجاة وبعد من النار ﴿ولهم عذاب أليم﴾ أي مؤلم موجع.