الآيات 172-174

الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿172﴾ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴿173﴾ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴿174﴾

اللغة:

استجاب وأجاب بمعنى وقيل استجاب طلب الإجابة وأجاب فعل الإجابة والقرح الجرح وأصله الخلوص من الكدر ومنه ماء قراح أي خالص والقراح من الأرض ما خلص طينه من السبخ وغيره والقريحة خالص الطبيعة واقترحت عليه كذا أي اشتهيته عليه لخلوصي على ما تتوق نفسه إليه كأنه قال استخلصته وفرس قارح طلع نابه لخلوصه عن نقص الصغار ببلوغ تلك الحال والقرح الجراح لخلوص ألمه إلى النفس والإحسان هو النفع الحسن والإفضال النفع الزائد على أقل المقدار حسبنا الله أي كافينا الله وأصله من الحساب لأن الكفاية بحسب الحاجة وبحساب الحاجة ومنه الحسبان وهو الظن والوكيل الحفيظ وقيل هو الولي وأصله القيام بالتدبير فمعنى الوكيل في صفات الله هو المتولي للقيام بتدبير خلقه لأنه مالكهم الرحيم بهم وهو في صفة غيره وإنما يعتد بالتوكيل.

الإعراب:

موضع الذين يحتمل ثلاثة أوجه من الإعراب الجر على أن يكون نعتا للمؤمنين والأحسن والأشبه بالآية أن يكون في موضع الرفع على الابتداء وخبره الجملة التي هي ﴿للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم﴾ ويجوز النصب على المدح وتقديره أعني الذين استجابوا إذا ذكروا وكذلك القول في موضع الذين في الآية الثانية لأنهما نعت لموصوف واحد وقوله ﴿لم يمسسهم سوء﴾ في موضع نصب على الحال وتقديره فانقلبوا بنعمة من الله وفضل سالمين والعامل فيه فانقلبوا.

النزول:

لما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم عن المسلمين وتلاوموا فقالوا لا محمدا قتلهم ولا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركتموهم فارجعوا فاستأصلوهم فبلغ ذلك الخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأراد أن يرهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال أ لا عصابة تشدد لأمر الله تطلب عدوها فإنها أنكا للعدو وأبعد للسمع فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من القراح والجراح الذي أصابهم يوم أحد ونادى منادي رسول الله ألا لا يخرجن أحد إلا من حضر يومنا بالأمس وإنما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليرهب العدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وإن الذي أصابهم لم يوهنهم من عدوهم فينصرفوا فخرج في سبعين رجلا حتى بلغ حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال وذكر علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال هل من رجل يأتينا بخبر القوم فلم يجبه أحد فقال أمير المؤمنين أنا آتيك بخبرهم قال اذهب فإن كانوا ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فإنهم يريدون المدينة وإن كانوا ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فإنهم يريدون مكة فمضى أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما به من الألم والجراح حتى كان قريبا من القوم فرآهم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فرجع وأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بذلك فقال أرادوا مكة فلما دخل رسول الله المدينة نزل جبرائيل فقال يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إن الله عز وجل يأمرك أن تخرج ولا يخرج معك إلا من به جراحة فأقبلوا يكمدون جراحاتهم ويداوونها فأنزل الله تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿ولا تهنوا في ابتغاء القوم أن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون﴾ فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح حتى بلغوا حمراء الأسد وروي محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب أن رجلا من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من بني عبد الأشهل كان شهد أحدا قال شهدت أحدا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالخروج في طلب العدو قلنا لا تفوتنا غزوة مع رسول الله فو الله ما لنا دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكنت أيسر جرحا من أخي فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى حمراء الأسد فمر برسول الله معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا ومعبد يومئذ مشرك فقال يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) والله لقد عز علينا ما أصابك في قومك وأصحابك ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم ثم خرج من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وأجمعوا الرجعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقالوا قد أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال ما وراك يا معبد قال محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا وقد اجتمع عليه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم وفيه من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط قال ويلك ما تقول قال فأنا والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم قال فأنا والله أنهاك عن ذلك فو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت أبياتا من شعر قال وما قلت قال قلت:

كادت تهد من الأصوات راحلتي

إذ سألت الأرض بالجرد الأبابيل

تردى بأسد كرام لا تنابلة

عند اللقاء ولا خرق معازيل

فظلت عدوا أظن الأرض مائلة

لما سموا برئيس غير مخذول

وقلت ويل لابن حرب من لقائكم

إذا تغطمطت البطحاء بالخيل

إني نذير لأهل السبل ضاحية

لكل ذي إربة منهم ومعقول

من جيش أحمد لا وخش تنابلة

وليس يوصف ما أثبت بالقيل قال فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ومر به ركب من عبد قيس فقال أين تريدون فقالوا نريد المدينة قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم إبلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتمونا قالوا نعم قال فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا الكرة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيتهم وانصرف أبو سفيان إلى مكة ومر الركب برسول الله وهو بحمراء الأسد فأخبره بقول أبي سفيان فقال رسول الله وأصحابه حسبنا الله ونعم الوكيل ثم انصرف رسول الله إلى المدينة بعد الثالثة وقد ظفر في وجهه ذلك بمعونة ابن المغيرة بن العاص وأبي قرة الجمحي وهذا قول أكثر المفسرين وقال مجاهد وعكرمة نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى وذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد حين أراد أن ينصرف يا محمد موعد بيننا وبينك موسم بدر الصغرى القابل إن شئت فقال رسول الله ذلك بيننا وبينك فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران ثم ألقى الله عليه الرعب فبدا له فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى وأن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها على يد سهيل بن عمرو فأتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم بئس الرأي رأيكم أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم فو الله لا يفلت منكم أحد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فأما الجبان فإنه رجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقال حسبنا الله ونعم الوكيل فخرج رسول الله في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى وهو ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام فأقام ببدر ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة فسماهم أهل مكة جيش السويق ويقولون إنما خرجتم تشربون السويق ولم يلق رسول الله وأصحابه أحدا من المشركين ببدر ووافق السوق وكانت لهم تجارات فباعوا وأصابوا للدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين وقد روى ذلك أبو الجارود عن الباقر (عليه السلام).

المعنى:

﴿الذين استجابوا لله والرسول﴾ أي أطاعوا الله في أوامره وأطاعوا رسوله ﴿من بعد ما أصابهم القرح﴾ أي نالهم الجراح يوم أحد ﴿للذين أحسنوا منهم﴾ بطاعة رسول الله وإجابته إلى الغزو ﴿واتقوا﴾ معاصي الله لهم ﴿أجر عظيم﴾ أي ثواب جزيل ﴿الذين قال لهم الناس﴾ في المعنى بالناس الأول ثلاثة أقوال (أحدها) أنهم الركب الذين دسهم أبو سفيان إلى المسلمين ليجنبوهم عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم عن ابن عباس وابن إسحاق وقد مضت قصتهم (والثاني) أنه نعيم بن مسعود الأشجعي وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله (والثالث) أنهم المنافقون عن السدي ﴿إن الناس قد جمعوا لكم﴾ المعني به أبو سفيان وأصحابه عند أكثر المفسرين أي جمعوا جموعا كثيرة لكم وقيل جمعوا الآلات والرجال وإنما عبر بلفظ الواحد عن الجميع في قوله ﴿قال لهم الناس﴾ لأمرين (أحدهما) أنه قد جاءهم من جهة الناس فأقيم كلامه مقام كلامهم وسمي باسمهم (والآخر) أنه لتفخيم الشأن ﴿فاخشوهم﴾ أي خافوهم ثم بين تعالى أن ذلك القول زادهم إيمانا وثباتا على دينهم وإقامة على نصرة نبيهم بأن قال ﴿فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل﴾ أي كافينا الله وولينا وحفيظنا والمتولي لأمرنا و﴿نعم الوكيل﴾ أي نعم الكافي والمعتمد والملجأ الذي يوكل إليه الأمور ﴿فانقلبوا﴾ أي فرجع النبي ومن معه من أصحابه ﴿بنعمة من الله وفضل﴾ أي بعافية من السوء وتجارة رابحة ﴿لم يمسسهم سوء﴾ أي قتل عن السدي ومجاهد وقيل النعمة هاهنا الثبوت على الإيمان في طاعة الله والفضل الربح في التجارة عن الزجاج وقيل إن أقل ما يفعله الله فهو نعمة وما زاد على ذلك فهو الموصوف بأنه فضل والفرق بين النعمة والمنفعة أن النعمة لا تكون نعمة إلا إذا كانت حسنة والمنفعة قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة وهذا لأن النعمة يستحق بها الشكر ولا يستحق الشكر بالقبيح ﴿واتبعوا رضوان الله﴾ بالخروج إلى لقاء العدو ﴿والله ذو فضل عظيم﴾ على المؤمنين وقد تضمنت الآية التنبيه على أن كل من دهمه أمره فينبغي أن يفزع إلى هذه الكلمة وقد صحت الرواية عن الصادق (عليه السلام) أنه قال عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله ﴿حسبنا الله ونعم الوكيل﴾ فإني سمعت الله يقول بعقبها ﴿فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء﴾ وروي عن ابن عباس أنه قال آخر كلام إبراهيم (عليه السلام) حين ألقي في النار ﴿حسبنا الله ونعم الوكيل﴾ وقال نبيكم مثلها وتلا هذه الآية.